في محاولة جديدة للسيطرة على فوضى الأسعار في سوق مواد البناء، أصدرت وزارة التموين والتجارة الداخلية قرارًا يُلزم مصانع الأسمنت بالإفصاح بوضوح عن أسعار البيع على العبوات المخصصة للمستهلكين، سواء عبر الطباعة المباشرة أو باستخدام رمز الاستجابة السريع (QR Code)، بهدف الحد من الممارسات الاحتكارية والتلاعب في الأسعار.

القرار، الذي نشرته الجريدة الرسمية في أكتوبر 2025، يأتي في وقت يشهد فيه السوق تذبذبًا مستمرًا في الأسعار وغيابًا شبه تام للرقابة الفعلية على حلقات التداول بين المصنع والتاجر والمستهلك.
 

فوضى الأسعار وقرارات لا تمس جوهر الأزمة
القرار الوزاري بدا للبعض خطوة إيجابية على الورق، لكنه في الواقع لا يعالج جذر المشكلة المتمثل في غياب الشفافية الحقيقية في تحديد تكلفة الإنتاج وهوامش الأرباح، فضلًا عن احتكار عدد محدود من الشركات للسوق منذ السماح بالاستحواذات الواسعة التي جرت في القطاع خلال الأعوام الماضية.

فبينما تجاوز سعر طن الأسمنت في فترات سابقة خمسة آلاف جنيه، عادت الأسعار مؤقتًا إلى حدود 3000 – 3500 جنيه من أرض المصنع بعد تجميد الحكومة في يوليو الماضي لقرار خفض الطاقات الإنتاجية للمصانع، وهو القرار الذي كان سببًا مباشرًا في اشتعال الأسعار قبل أشهر قليلة فقط.

الانتقادات الموجهة للحكومة لا تتعلق فقط بارتفاع الأسعار، بل بطريقة إدارتها للملف. فبدلًا من ضبط السوق من المنبع ومراجعة هوامش الربح، لجأت إلى حلول شكلية مثل كتابة الأسعار على الشكائر، وكأن الأزمة في غياب المعلومات لا في بنية السوق ذاتها التي تسمح بالتلاعب.
 

تصريحات متفائلة مقابل واقع متقلب
رئيس شعبة مواد البناء باتحاد الغرف التجارية، أحمد الزيني، وصف القرار بأنه “خطوة إيجابية نحو ضبط السوق”، لكنه شدد على أن فعالية القرار تعتمد على تطبيقه العملي والرقابة الميدانية. وأشار إلى أن قرارات مماثلة صدرت في عهود سابقة، أبرزها في زمن وزير التجارة الأسبق رشيد محمد رشيد، لكنها لم تحقق هدفها، إذ لجأت بعض المصانع إلى تدوين أسعار مبالغ فيها باعتبارها حدًا أقصى، بينما كان السعر الفعلي في السوق أقل بنحو ألف جنيه في الطن.

يقول الزيني: “كنا نجد على العبوة سعر 5000 جنيه بينما يُباع فعليًا بـ4000 جنيه، فما الفائدة من حد أقصى لا يعكس الواقع؟”. هذه التجربة تعيد المخاوف من أن يتحول القرار الجديد إلى مجرد غطاء قانوني لتبرير ارتفاع الأسعار بدلاً من كبحها.

ويؤكد الزيني أن أسعار الأسمنت الحالية تتراوح بين 3000 و3500 جنيه من أرض المصنع، وتصل إلى ما بين 3800 و4200 جنيه للمستهلك النهائي، وفقًا لحركة العرض والطلب. ومع غياب رقابة صارمة على سلاسل التوزيع، يظل الفارق بين السعرين مساحة مفتوحة للتلاعب من قبل بعض التجار والموزعين.
 

QR Code.. تقنية حديثة لكن بلا ضمانات
أما رئيس شعبة الأسمنت بغرفة مواد البناء باتحاد الصناعات، أحمد شيرين، فاعتبر أن السماح للمصانع باستخدام QR Code بدلاً من الطباعة الثابتة خطوة “تطويرية”، تتيح للمستهلك معرفة السعر الحقيقي لحظة الشراء. لكنه لم يوضح كيف ستضمن الوزارة أن تكون الأسعار المعروضة عبر الكود محدثة وواقعية، أو كيف سيتم محاسبة الشركات في حال استخدمت هذه التقنية لتثبيت أسعار أعلى من السوق.

شيرين أكد أن “الكود سيمكن المستهلك من الاطلاع على السعر الصحيح المحدث يوميًا”، لكنه تجاهل حقيقة أن أغلب المستهلكين، خاصة في المناطق الريفية، لا يملكون أدوات التحقق من تلك البيانات، ما يجعل القرار بلا أثر فعلي على أرض الواقع. فالشفافية الرقمية لا قيمة لها في سوق يعاني من ضعف رقابة بشرية ومؤسسية.
 

أرقام رسمية تكشف تناقض السوق
ووفق بيانات الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، ارتفعت صادرات الأسمنت بنسبة 125% خلال الربع الأول من عام 2025، لتصل إلى 107 ملايين دولار، مقابل 47 مليونًا فقط في الفترة نفسها من العام الماضي. كما ارتفع إنتاج مصر من الأسمنت خلال أول خمسة أشهر من العام بنسبة 26% ليبلغ 25.7 مليون طن.

هذه الأرقام تكشف تناقضًا صارخًا بين زيادة الإنتاج والصادرات من جهة، وارتفاع الأسعار في السوق المحلي من جهة أخرى، ما يشير إلى خلل واضح في أولويات الحكومة التي تفضّل التصدير وجذب العملة الصعبة على حساب تلبية احتياجات السوق المحلي وضبط الأسعار للمواطنين.
 

غياب الرقابة واستمرار الاحتكار
يرى مراقبون أن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب آلية رقابية فعالة، إذ لا توجد جهة مستقلة تتولى متابعة تكلفة الإنتاج وهوامش الأرباح، فيما تكتفي الحكومة بإصدار قرارات إعلامية لا تُطبق. كما أن احتكار عدد محدود من المصانع الكبرى للسوق يجعل أي قرار إداري عديم الجدوى في ظل غياب منافسة حقيقية.
 

إجراءات تجميلية في سوق فوضوي
القرار الأخير من وزارة التموين قد يبدو على الورق خطوة نحو الشفافية، لكنه في جوهره إجراء تجميلي لا يحد من فوضى الأسعار ولا يوقف جشع الشركات المحتكرة. فالمشكلة ليست في كتابة السعر على العبوة أو عبر كود رقمي، بل في غياب الدولة عن دورها الرقابي وضبط آليات التسعير.

ومادامت الحكومة تواصل سياساتها المرتبكة بين تشجيع الصادرات وتحرير السوق دون رقابة حقيقية، ستظل أسعار الأسمنت — كما غيرها من السلع — عرضة للارتفاع المستمر، في سوق تحكمه الاحتكارات لا القوانين، والمصالح لا العدالة الاقتصادية.