تقرير الديون الدولية لعام 2025 لا يقدّم مفاجآت بقدر ما يضع ختمًا رسميًا على حقيقة يعرفها المصريون بحدسهم اليومي: اقتصاد يعيش على «المسكنات» ويُدار بمنطق الاقتراض المستمر، حتى وصل إلى ما وصفه البنك الدولي نفسه بـ«نقطة قاتمة» تستوجب وقف مغامرة المجازفة بالمستقبل، وتحذير صريح من الانزلاق إلى كارثة أكبر غدًا. في قلب هذه الصورة، تقف حكومة السيسي باعتبارها المسؤولة المباشرة عن تحويل الدين من أداة تمويل إلى «سرطان» ينهش الموازنة والسيادة معًا.
من اقتصاد واعد إلى اقتصاد مرهون بالديون
يشير التقرير الأحدث للبنك الدولي إلى أن ثاني أكبر اقتصاد أفريقي وثالث أكبر اقتصاد عربي – أي مصر – وصل إلى نقطة فاصلة تستلزم «مراجعة الأوضاع والسياسات» ووقف الدخول في «صفقات شيطانية» مع الدائنين، بعدما أصبح نموذج النمو قائمًا بالكامل تقريبًا على الاقتراض الخارجي والداخلي. هذا التحذير لا يأتي من معارضين في الخارج، بل من مؤسسة كانت شريكًا في تمويل هذا المسار لسنوات، ما يعكس حجم خطورة الوضع الحالي.
الأرقام تكشف حجم الكارثة: الدين الخارجي لمصر قفز من نحو 36.8 مليار دولار عام 2010 إلى حوالي 156 مليار دولار في 2024، مع ارتفاع الدين طويل الأجل إلى أكثر من 109 مليارات، والقصير الأجل إلى نحو 31 مليارًا. هذا التضاعف ليس نتيجة حرب أو كارثة طبيعية شاملة، بل نتيجة خيارات سياسية واقتصادية اتخذتها حكومة السيسي، بفتح شهية الاقتراض من صندوق النقد، والبنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، ودول الخليج، والصين وروسيا، دون بناء قاعدة إنتاج حقيقية تولّد عملة صعبة تضمن القدرة على السداد.
«مال ساخن» واقتصاد على حافة الانفجار
تقرير البنك الدولي يحذر من تحوّل هيكل الدائنين في الدول النامية، ومنها مصر، من مؤسسات رسمية ونادي باريس إلى حَمَلة السندات والدائنين الخاصين الذين يسيطرون على 60 بالمئة من التدفقات، وضخوا وحدهم 80 مليار دولار عام 2024. هذا ما يسمّيه التقرير «المال الساخن»؛ أموال تتحرك بسرعة بحثًا عن أعلى ربح، وتنسحب فورًا عند أول إشارة خطر، بما يجعل أي اقتصاد يعتمد عليها رهينة لمزاج الأسواق لا لخطط حكومته.
في الحالة المصرية، تجلت خطورة هذا النمط بوضوح في الربع الأول من 2022، عندما خرجت نحو 22 مليار دولار من استثمارات المحافظ في وقت قصير، فانهار الجنيه من حدود 15 إلى قرابة 50 جنيهًا للدولار، وهو ما يعني عمليًا نقل كلفة هذه المضاربات إلى كاهل المواطن عبر التضخم وتآكل الأجور. ومع استمرار الاعتماد على الديون قصيرة الأجل والأموال الساخنة – التي تصل في شريحة قصيرة الأجل وحدها لحوالي 31 مليار دولار – يصبح أي اضطراب سياسي أو مالي كفيلًا بإشعال أزمة عملة جديدة، في اقتصاد لم يتعاف أصلًا من الصدمات السابقة.
أرقام صادمة: اقتصاد يعمل لسداد الدين لا لخدمة الشعب
يصنف البنك الدولي مصر ضمن «أكثر الدول مديونية» عالميًا، إذ بلغت نسبة الدين الخارجي إلى الصادرات 233 بالمئة، بينما وصلت نسبة خدمة الدين إلى الصادرات إلى 49 بالمئة، ما يعني أن قرابة نصف عوائد مصر من العملة الصعبة تذهب مباشرة لسداد الفوائد والأقساط بدل أن توجه للتنمية أو دعم التعليم والصحة. هذا الوضع يجعل الاقتصاد يعمل – حرفيًا – لخدمة الدائنين لا لخدمة الشعب.
التقرير يوضح أن هيكل الديون العامة والمضمونة حكوميًا في 2024 موزع بين دائنين ثنائيين بنسبة 25 بالمئة، ومتعددي الأطراف بنسبة 36 بالمئة، ودائنين خاصين بنسبة 39 بالمئة، مع حصة واضحة للسعودية (6 بالمئة) والكويت (5 بالمئة) وروسيا (3 بالمئة)، في تأكيد على حجم الارتهان المالي لمحاور إقليمية ودولية متعددة. وبالتوازي مع ذلك، ارتفع إجمالي الدين الخارجي إلى أكثر من 161 مليار دولار بنهاية يونيو 2025 بحسب بيانات البنك المركزي المصري، مع زيادة نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي من 38.8 إلى 44.2 بالمئة، وقفزة مدفوعات خدمة الدين إلى 38.7 مليار دولار في عام مالي واحد.
من أزمة مالية إلى قضية سيادة وطنية
توصيات البنك الدولي وصندوق النقد اليوم تطالب بوقف التوسع في الاقتراض، وإعادة هيكلة الديون، وترتيب المالية العامة، وتقليل الأخطار السيادية بتشجيع الاستثمار الإنتاجي، في اعتراف متأخر بأن نموذج «النمو بالدَّين» الذي شجعته هذه المؤسسات لسنوات أوصل الدول – ومنها مصر – إلى حافة الهاوية. هنا يصبح السؤال: من سيدفع كلفة هذه المغامرة؟ البنك يلمّح بوضوح إلى أن «التبعات الإنسانية فادحة»، وأن نصف سكان أكثر من 22 دولة مدينة لا يستطيعون تحمّل كلفة الغذاء الضروري لصحة مستدامة، وهو توصيف ينطبق بدرجات متفاوتة على الوضع المعيشي في مصر.
قراءة الصحفي والمحلل السياسي إلهامي المليجي لتقرير الديون تلتقط هذه النقطة بوضوح، إذ يرى أن توصيف البنك لوضع مصر بأنه بلغ «نقطة قاتمة» يستند إلى معادلة قاسية: دين خارجي يفوق قدرة الاقتصاد على توليد العملة الصعبة، وخدمة دين تلتهم عوائد الصادرات، واعتماد شديد على ديون قصيرة الأجل وأموال ساخنة حساسة لأي اضطراب. هذا الوضع لا يترك لصانع القرار إلا هامشًا ضيقًا تتحكم فيه إرادة الدائنين، فيتحول ملف الديون من مسألة تقنية إلى قضية «سيادة اقتصادية» تمس جوهر قدرة الدولة على اتخاذ قرار مستقل في الإنفاق والأولويات.
في النهاية، يخلص المليجي – انسجامًا مع تحذيرات تقرير البنك الدولي – إلى أن استمرار هذا المسار يعني أن مصر لا تعيش أزمة مؤقتة، بل نموذجًا اقتصاديًا مختلًا يقوم على الاستدانة وإدارة العجز وتأجيل الانفجار، بدل بناء قاعدة إنتاج حقيقية. ومع حكومة تصر على الاقتراض لتمويل مشروعات ضخمة مثيرة للجدل، وبيع الأصول لسداد الاستحقاقات، يصبح الحديث عن «إصلاح مالي» دون تغيير في طبيعة السلطة واختياراتها نوعًا من الخداع؛ لأن الديون هنا لم تعد أرقامًا في جداول، بل قيدًا على مستقبل أمة كاملة، تُساق اليوم إلى حافة الانهيار باسم «التنمية» و«الإصلاح».

