بعد سقوط نظام بشار الأسد، كان أول ما فعله ثلاثة مقاتلين دخول فرع فلسطين، أحد أشهر السجون سيئة السمعة في سوريا، بحثًا عن زنازينهم الانفرادية السابقة. اجتازوا البوابات الحديدية الشاهقة والأسلاك الشائكة عند أطراف مجمع دمشق، واتجهوا مباشرة إلى الزنازين الضيقة التي قضوا فيها سنوات طويلة في الظلام، محاطين بجدران باردة مرسومة عليها كتابات محفورة بيد مرتجفة.
وقف محمود شتاوي أمام المبنى الإسمنتي المكون من عشرة طوابق، رافعًا رأسه ليتأكد أنه حر بالفعل. كان الناس يخشون حتى النظر إلى هذا السجن في الماضي. وعندما وجد زنزانته رقم 15، أطلق عدة طلقات نارية احتفالًا، وقرر قضاء الليل فيها ليواجه ذكرياته. يقول: "عندما دخلت الزنزانة، شعرت أن العدالة قد تحققت أخيرًا".
إبراهيم يونس، رفيقه في الأسر، دخل زنزانته السابقة رقم 9، جالسًا هناك لدقائق، مسترجعًا وعوده السابقة بمساعدة السجناء المظلومين. اليوم، بعد سقوط النظام، هو ورفاقه من مقاتلي "أحرار الشام" يقفون كحراس عند بوابة هذا السجن الذي كان يومًا ما رمزًا للقمع والتعذيب.
سجن الرعب يتحول إلى مركز للعدالة
كان يُعرف فرع فلسطين، أو الفرع 235، بمراقبته للفصائل الفلسطينية، لكنه اشتهر على مدى عقود بأنه مركز للتعذيب الوحشي. ومع سيطرة المقاتلين عليه، أصبح مكانًا يتوافد عليه المدنيون للإبلاغ عن جرائم السرقة أو تسجيل أسمائهم للعمل في الحكومة الانتقالية. رغم الحذر في نظراتهم، كانوا يحيون الحراس الجدد بحرارة، غير قادرين على نسيان ما كان يحدث بين جدرانه.
إبراهيم يونس، الذي بدأ حياته المهنية كمحقق في فرع فلسطين عام 2005، عاد اليوم إلى العمل في التحقيقات، لكن هذه المرة في ظل حكومة جديدة. في الماضي، كان يشاهد طرق التعذيب المروعة التي استخدمها ضباط النظام: تعليق المعتقلين داخل إطارات مطاطية وضربهم، إجبارهم على اتخاذ أوضاع مؤلمة، وتعليقهم من معاصمهم.
يتذكر يونس مشهدًا لا يفارقه أبدًا: أحد جيرانه يُضرب حتى الموت تحت عينيه في محاولة لانتزاع اعترافات منه عن المتظاهرين. يقول: "علمني ذلك أن الدولة لم تكن موجودة لحماية الناس، بل فقط للحفاظ على سلطتها". ودفعه ذلك إلى تسريب معلومات للمتظاهرين، لكن تم القبض عليه عام 2012 وسُجن في نفس المبنى الذي كان يعمل فيه.
ذكريات الألم.. وجراح لا تندمل
يتحدث محمود يونس عن التعذيب الذي تعرض له، مشيرًا إلى الندوب التي ما زالت على جسده. كان يُحتجز في زنزانة انفرادية لفترات طويلة، ليخرج فقط إلى غرفة التعذيب، حيث يُجبر السجناء على الجلوس عراة في أوضاع مذلة قبل تعذيبهم بالصدمات الكهربائية أو إغراقهم بالماء القذر. يتذكر رؤية الجثث مرمية على الأرض والخوف من أن تتعفن جروحه فيضطر إلى زيارة مستشفى عسكري، حيث كان الأطباء أنفسهم يشاركون في التعذيب.
كان الفرع يضم مئات المعتقلين، بينهم أجانب مثل الكندي ماهر عرار، الذي اختطفته المخابرات الأمريكية ونُقل إلى السجن حيث تعرض للضرب بأسلاك كهربائية وأُجبر على الاستماع إلى صرخات التعذيب حتى يعترف بتهمة لم يرتكبها.
داخل إحدى غرف التحقيق، وجد المقاتلون كرسيًا للأسنان، يُعتقد أنه كان يُستخدم في التعذيب، بينما كانت الأدوية متناثرة على الأرض، تُستخدم لإبقاء السجناء على قيد الحياة فقط لمواصلة تعذيبهم لاحقًا.
حرق الأدلة والصراع على إرث السجن
بعد فرار قوات الأسد، اتهم أعضاء "أحرار الشام" جماعة أخرى بإحراق وثائق مهمة، بينما نُهبت الطوابق العليا التي كانت تضم مساكن الضباط. في الطوابق السفلية، ظلت سلاسل معدنية متدلية من أبواب الزنازين، ورائحة العرق والدماء لا تزال عالقة في الهواء.
بينما كان المقاتلون يتفحصون أكوام الوثائق المتبقية، وجدوا ملفات تحمل تفاصيل دقيقة عن المواطنين، وصولًا إلى نوع السبَح التي كانوا يحملونها عند الاعتقال. كان هناك حتى مذكرة عن خلل في كاميرات المراقبة التي سقطت الآن على الأرض، مجردة من قيمتها.
أحمد الحمصي، أحد الناجين، فقد 50 كيلوجرامًا من وزنه خلال عامين من الاحتجاز. يقول بغضب مكبوت: "لقد كانوا قادرين على تعليم الشيطان أساليب التعذيب". لكنه، وهو يقف أمام بوابة السجن للمرة الأولى كرجل حر، رأى فرصة. عاد إلى دمشق من تركيا وسارع إلى التطوع للمساعدة في بناء سوريا جديدة.
مستقبل فرع فلسطين.. رمز للعدالة أم استمرار للرقابة؟
انقسم المقاتلون حول مصير هذا السجن سيئ السمعة. محمود شتاوي رأى أنه يجب تحويله إلى جامعة أو مستشفى، معتبرًا أن أفضل طريقة لمحو ماضيه المظلم هي جعله رمزًا للخدمة العامة. أما إبراهيم يونس، فكان أكثر حذرًا، مؤكدًا أن سوريا الجديدة تحتاج إلى جهاز استخبارات، لكن بشروط جديدة: "يجب أن يكون هذا المكان رمزًا لاستعادة حقوق المواطنين، لا للظلم".
في النهاية، وبينما يقف الناجون على بوابة السجن، بين ذكريات الماضي وأحلام المستقبل، يبقى السؤال مطروحًا: هل يمكن لمكان شهد أبشع أنواع الظلم أن يتحول إلى مركز للعدالة؟ أم أن ماضيه سيظل يلاحقه إلى الأبد؟
https://www.theguardian.com/world/2025/feb/10/syria-assad-torture-survivors-guard-their-former-jail