عزة مختار :

 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169 - 171].

المشهد : سكون في الكون ، وهدوء بارد ، وموسيقي غير مسموعة تطرب القلب ، ورائحة عجيبة تسحر النفس ، وسحب زرقاء تسر العين ، وأجنحة بيضاء تحمل بينها جرح ما زال نازفا ، يضرج بدماء لامعة كالبرق الخاطف ، قانية كالقلب الحي ، ناطقة بلسان الصدق ، تنبض بحياة الأبد ، تضيء كالشمس ، هادئة كالقمر في ليلة اكتماله
وصوت من سكون الكون ينساب علينا كالماء في جدوله يسير في تأن بخرير يطرب القلوب الحية
يقترب الصوت ولا نملك معه إلا الصمت ، صمت الأموات حين يستمعوا للأحياء ليغبطوهم علي حياتهم ، بينما هم هنا ما زالوا في الانتظار بوهن وتردد
من سبقوا رحلوا بغير وداع
ونحن ما زلنا هنا ننتظر
هل نتقدم فنلحق بهم ؟
عبد الله بن رواحة وقف هنيهة
لم يستطع بهم لحاقا
ونحن ما زلنا ننتظر ، وطالت الهنيهة لتصير أزمنة وما زلنا في حالة الانتظار يكبلنا الخوف والرجاء
صمتا أحبتي واسمعوني
إخواني هل تسمعوني ؟
تنشق السماء عن الصوت ليصير أنغاما متطايرة في آذاننا ودون استئذان يتملكنا ، ودون وعي نصمت :
اعذروني وقد تأخرت عليكم وقد كان بيننا عهد أن من سبق يعود ليطمئن أخاه ، ويصف له الموت ، عذرا ، فما استطعت القدوم إليكم وترك الحياة
لو كنت ميتا لجئتكم منذ زمن لأخبركم كيف هو الموت ، لكنني حقا لم أمت فماذا أقول ، وماذا أصف ؟
هنا كنت يوما بينكم مكبلا مثلكم ، الخوف ، الدنيا ، الأولاد ، الوظيفة ، الجوع ، السكن ، النجاح ، الرفاهية ، بكاء الأولاد وحاجاتهم ، حيرة الزوجة وضعفها ، ألم قلب الأم والأب ، كلها مكبلات ، كلها سجون ، كلها وهن ، لم أدرك معني الحرية إلا مع الرصاصة الأولي ، تلك التي شقت صدري لتطهره من بقية آثام التكبيل ، سقطت مع أول قطرة ، لأجد ، ويا لروعة ما وجدت .
أتذكرون حين كنا معا نتناول بعض اللقيمات ، يضع أحدنا بعضها في فم أخيه إيثارا له علي نفسه ، تلك اللقيمات لم أعرف مذاقها إلا هنا ، في صحبة أحبة لنا سمعنا بهم ولم نرهم ، الآن صاروا صحبتنا ، ويسألونا عنكم ، كيف تركتموهم في الظلمات ؟ هل يستطيعون الخروج منها ؟ أم أن الدنيا ما زالت تتحكم برقابهم ؟
أتذكرون كلامي بينكم ؟ تذكرون ضحكاتي ؟ تذكرون حركتي التي لم يكن يوقفها خوف ؟ تذكرون حين كنت أصطحب ابني فتداعبوه حبا وترضية منكم لي وله ؟ تذكرون طرق أصابعي علي الباب ، ورنة هاتفي ، واسمي الذي ربما أزاله أحدكم من ذاكرة هاتفه ؟ أتذكرون حياتي ؟ أبدا والله إنها لم تكن حياة ، لم أعرف الحياة إلا هنا ، معي شهادة من الحق أنني أنا الحي لا أنتم ، فاستقيموا لتحيوا ، ارتقوا لتحيوا ، اقتربوا لتحيوا ، تخففوا من أعبائكم لتحيوا ، أتركوها لله سيعطيكم مثلها وفوقها وفوقها وفوقها.
أتذكرون أيها الأحبة حين تعاهدنا وتبايعنا علي الموت في سبيل الله ؟ يا الله ، ما أعظمه ، وما أروعه ، إنه اللذة التي لا تدانيها لذة الدنيا مجتمعة ، بضع قطرات من دمي غفرت لي كل تقصير كان ، كل ذنب نسيته ، كل لفظة لم أذكرها ، وكأنها غسلتني لأصير طيرا من أطيار الجنة ، انظروا ، ها هو مكاني في الجنة أراه ، هل تعلمون بيت من هذا الذي بجوار بيتي ؟ إنه بيت الصديق أبو بكر يقبع في ملكه الكبير الذي لا تسعه عقولنا المحدودة ، وبالقرب منا بيت عمر ، أتدرون لمن تلك الدرة المجوفة من اللؤلؤ ؟ تلك المضيئة هناك ، إنها لأمنا خديجة رضي الله عنها ، لبناتها إحداها من ذهب والأخرى من فضة ، اصمتوا وشاهدوا فقط ، فبيت خديجة هادئ ليس فيه نصب ولا صخب ، هنا تمرون فقط في صمت وسكينة لتشاهدوا عظمة تتغير في كل لحظة لعظمة أكبر منها وأروع وأكثر دهشة ، في البقعة التي هناك تلك أملاك الشهداء منا ، هنا نجاور الأنبياء ، هنا نستمع القرآن بصوت حبيبكم ، أتذكرونه ؟ حبيبكم محمد صلي الله عليه وسلم ، هو بنفسي عرفني بيتي في الجنة ، اصطحبني لهناك ، اخترت جواره كما اخترت سنته في الدنيا واقتديت بها كما كنا نتواصي ، أتذكرون تواصينا بأن محمد قدوتنا ؟ زعيمنا ؟ وجدته يعلم ، وجدت أحاديثنا عنده ، هو يؤازركم ، ويبلغكم السلام ، ويوصيكم بالثبات فأنتم علي الحق .
دخلت القبر ، عفوا ، لم يكن قبرا ، كان روضة من رياض الجنة أعدها الله بيده لمن باع لله ، رأيتكم تبكون ، كم وددت لو أخبرتكم بما أكرمني ربي ، كم وددت لو كفكفت دموعكم فانا لم أمت ، بل ملايين علي الأرض أموات بينكم ونحن وحدنا الأحياء ، ملايين تتنفس وتأكل وتتحرك وتنمو لكنها في الحقيقة ميتة ، فالموت ليس السكون ، وإنما الموت هو الغفلة لو تعلمون ، أنا حي أرزق ، تلقتني الملائكة ، لم تسألني عن ربي ، أتعلمون لماذا لم يسألون ؟ لأنني بعت نفسي لربي ، فليسألوه إن أرادوا ، لماذا يسألوني وأنا لم أملك نفسي ، لقد بعتها بموجب عقد معه في سورة التوبة التي حفظناها معا هنا ، في نفس تلك الحلقة ، وربما في نفس المكان ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]
أترون تلك الياقوتة الحمراء علي رأسي ؟ هذا تاج الوقار ، أتدرون بكم تشتروه ؟ لا ثمن له إلا النفس ، الله اشتري منكم فهل تبيعون ؟
علمت بالصراط ، إياكم أن تحسبوا أن الصراط في الآخرة يجتازه من شاء بعمله ، الصراط يبدأ من هنا ، من لقاء لله ، من حلقة ذكر لله ، من موعد للتواصي بالحق ، من لقاء تربية في الله ، من تراب مسيرة سرتها في سبيل الله ، من حفنة غاز استنشقتها فأصابتك بالاختناق والبكاء والحرقة والضيق ثم عاودت المسير لله ، الصراط يبدأ من هنا ، فإن اجتزتموه ، فأنتم عابرون هناك ، عابرون بصحبة الحبيب إلي باب بيتك في الجنة ولقد رأيته عين اليقين
تاجرت مع الله وربحت ، إياكم والتردد ، إياكم والرجوع ، إياكم والوقوع ، فأنا بحق أخوتي لكم جئتكم ، وأنتم بحق أخوتكم لبعضكم البعض لا تتركوا أحدكم للسقوط ، أنتم إخوان ، والأخ لأخيه ، إن فترت همته أخذ بيده ، وإن سقط لم يتركه للشيطان وحده ، لو تعلمون أجر مسيرة واحدة في سبيل الله ما تركتموها ، لو تعلمون أجر الثبات ما تخاذلتم ، لو تعلمون أجر أخوتكم فيه ما ترك أحدكم أخيه لحظة .
في لحظة اللقاء ، حين كانت تمطر السماء موتا من فوقنا ومن تحت أرجلنا ، حين أحاط بنا الباغي من كل مكان يقتل فينا الأمل ، وجدتني مدفوعا له ، لست أخفيكم أن قلبي كان وجلا ، ولست أخفيكم أن قدمي كانت تثقل في بعض خطواتي ، أعترف أني كنت أسيرا لبعض الخوف ، لكنه لم يكبلني ، استطعت أن أتجاوزه حين رأيت الخوف في عين قاتلي رعبا ، وجدته مرتعبا مني وأنا الأعزل وهو المدجج بالسلاح ، وجدتني الأقوى بالله وهو العبد المكبل لسيده بالدرهم والدينار والخوف ، وجدتني أنا سيده وهو الذليل ، اقتحمت عليه ذاته الضعيفة الهينة لأخبره أني شهيد حي ، أن مبتغاي الجنة لا غيرها ، وأن عرسي اليوم علي الحور العين وهن في انتظاري ، وأن ديني أغلي من ملك سيده ، وأن حرية روحي لا يملكها إلا من بعت له نفسي ، لم يملك إلا أن يضغط علي زناد الكراهية ليحررني ، كتب علي نفسه اللعنة بدمي ، وكتب لي ربي الجنة بنفس الدماء ، لم أشعر إلا بتحرير ذاتي ، لا ألم ، لا خوف ، لا موت ، لا حساب ، لا عذاب ، لا اختناق ، لا حشرجة ، لا غسل وقد اغتسلت بدمي ، لا تعرية وقد دفنت في ملابسي ، لا جثة وأنا حي ، أنا الحي بينكم فاسمعوني
أنا بعت الله فربحت البيع وأي ربح ، فهل أنتم لله بائعون ؟ هل أنتم بائعون ؟

 

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها فقط ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع