أحمد زهران (*)

غدًا تحتشد مصر كلها بطبقاتها وطوائفها لتدافع عن حريتها ممن يريد لها أن تعود إلى زمن الرق الذي أغرقها في الذل والتبعية حتى طمس في نفوسها معاني الحرية والعزة والاستقلال والكرامة!

لقد قام الشعب المصري بثورته الأروع في تاريخ العالم كله، ونذروا أنفسهم لله في معركة التحرير والتطهير، فحرروا الأمة من وهم الخوف، وطهروا الوطن من الفساد الشامل؛ وعمدوا إلى أوكار الأفاعي وأجحار الذئاب فقوضوها على رءوسهم.

والتف الشعب بعد أن اطمأن إلى ثورته إلى الجيش الذي حماها وصانها في بداية الأمر، وسلم ثورته أو كاد إلى المجلس العسكري، وقد أحسنوا به الظن، وأمَّلوا فيه الخير، ورجوا منه أن يحفظ لهم ثورتهم حتى يصل بها إلى بر الأمان، ولكنه قابل ذلك بإساءة وطمع، ومكّن لطائفة من بقايا المفسدين والباغين والمستبدين من أرباب النظام البائد (اللهو الخفي، أو الطرف الثالث، أو سمِّه ما شئت) أن يسرحوا في أرض مصر يمينًا وشمالاً، ويعيثوا فيها الفساد أشكالاً وألوانًا، كي يكفر الشعب بثورته، ويتمنوا العودة إلى يوم من أيام المخلوع! حتى صدق فيهم قول إبراهيم العرب (رحمه الله):   

حمل أبصر ذئباً بالفلا                   ورأى الشر بدا من مقله
اعترته رجفة من خوفه                   وتمشى حائراً في خبله
فاحتمى بالليث كي يحفظه          ورأى في الليث أقصى أمله
فأتاه الحتف من مأمله                  وانقضى ما يرتجي من أجله
رب من ترجو به دفع الأذى             عنك، يأتيك الأذى من قبله

وقد آذانا المجلس العسكري وآذى شعب مصر كله يوم طالب بعشر وزارات سيادية في الحكومة المقبلة، وأن يظل وضعه كما هو من دون تغيير، وألا يتدخل أحد في مناقشة ميزانيته مع أنها تشكل ثلث ميزانية مصر تقريبًا، ثم يذهب بعيدًا ويصر على إدراج المادتين التاسعة والعاشرة (من وثيقة السلمي البائدة) في الدستور القادم، ويمارس ضغوطه على بعض الجهات والأفراد كي ينسحبوا من الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، ويشكل لجنة قضائية للإشراف على الانتخابات الرئاسية أقل ما توصف به أنها مصنوعة على عينه وعين النظام البائد، تُقصي من تشاء، وتئوي إليها من تشاء..

ولكن الشعب لم يتحمل هذا الانحراف عن خطى ثورته، ولم يرض بهذا الزيغ عن أهدافها التي ضحى بزهرة أبنائه من أجلها، فما كان منه إلا أن لملم صفوفه واستجمع قواه، وتعالى على الخلافات الشكلية بين أحزابه وحركاته الثورية، وقرر أن يخرج غدًا كما يقول أحمد حسن الزيات (رحمه الله): "مزهوًا بجهاده، فخورًا بنفسه، معبرًا بهتافه المرتفع، وتصفيقه المدوي، وحماسه المتقد عن قلقه وارتيابه من حكم العسكر، وعن أمله الفسيح في مستقبل مشرق".

"وكما يورق الشجر ويزهر، وينضر الزهر ويفوح، وتمرح الطير وتهزج، سترى الشعب غدًا من ذات نفسه يبتهج ويفوح، ولإطراب نفسه يغني ويرقص، ولإطراء نفسه ينشد ويهتف: (يسقط يسقط حكم العسكر).

ألا فليشهد العالم وليسمع إن رغب عن أن يشهد، وليعلم إن رغب عن كلا الأمرين، أن كل مصري سيقول غدًا: أنا مصر.. ومصر أنا.. لا ذلة ولا هوان.. فروحي في يدي.. ووصيتي في جيبي.. وحب بلدي في جعبتي، والثورة قائدتي وملهمتي.. والله جل جلاله معي.

لقد كتبتُ مخاطبًا المشير من قبل (في مقال عنوانه: إلا نحن يا سيادة المشير) أن طلبات الشعب ليست اقتراحات يقدمونها، ولكنها أوامر يجب أن تُنفذوها، وتعليمات عليكم أن تستجيبوا لها، وذكّرته بما روته كتب السير أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) عزل العلاء بن الحضرمي (رضي الله عنه) عامله على البحرين؛ لأن وفد عبد قيس شكاه، وكذلك فعل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فكان يعزل ولاته إذا وجد أن الناس لا يريدونهم، ولقد سُـئِل في ذلك يومًا فقال: "هَانَ شيءٌ أُصْلِحُ به قومًا أن أُبدِلَهم أميرًا مكان أمير".

وقلت لسعادة المشير إن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عزل سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) لأن الناس شَكوا منه، وقال: "إني لم أعزله عن عجز ولا عن خيانة"، مما يَدّل على أن طلبات الناس أوامر، فإذا كانوا يريدون الأمن على حياتهم وممتلكاتهم، ويريدون الكفاية في طعامهم وشرابهم وحاجياتهم الأساسية، فالواجب على من يتولى مقاليد الحكم أن ينصاع لهم، فهو خادم عندهم وأجير.. وليس بسيِّد عليهم ولا كبير.

ولكن المجلس العسكري ظن أنه أصبح صاحب العرش، وصاحب الجيش، وصاحب الحكم، وصاحب الثروة، وظن أنه أقوى من هذا الشعب وأعلى، وظن أن الشعب ساذج يمكن الضحك عليه بكلمات من قبيل: (الجيش والشعب إيد واحدة)، واعتقدوا أن رصيدهم عند الشعب كبير؛ فإذا به ينجلي عن عدد لا حدَّ له من الأصفار!!

ظن قادة المجلس العسكري -بعد مرور عام وبعض عام على الثورة -أنهم "أوغلوا أيديهم إلى مواطن القوة في الشعب فخنقوها، وإلى الغدة التي تفيض بالعزة والإباء في النفوس فجففوها.. وباتوا وأصبحوا وكل أملهم أن يروا قطيعًا يُضرب فلا ثغاء، ويُحلب فلا استعصاء، ويُستحث فلا إبطاء.. حتى كادت الفرحة أن ترقص في عيونهم رقصة النصر.."!

لكننا نقول لهم: "إن الجفاف الذي أصاب الغدة كان طارئًا فزال، ومؤقتًا فانقشع، وعادت الغدة تفيض من جديد..! وعربدت في الصدور نوازع الشمم عنيفة كأقسى ما يكون العنف، قوية كأعنف ما تكون القوة"، وآثر الشعب هذه المرة أن يكون حذرًا واعيًا، وأن يجتث الشر من أصوله، وأن يقتلع المستبد من جذوره، وأن يجفف الدم في عروقه.

يقول الشهيد سيد قطب (رحمه الله): "ولا يحسبن أحد أنه أقوى من هذا الشعب، ولا أكبر من هذا الشعب، ولا أرفع من هذا الشعب، ولا أعلى من هذا الشعب؛ ولا يحسبن أحد أنه من الدهاء بحيث يخدع هذا الشعب عن أهدافه الواضحة المرسومة، ولا أنه من الحيلة بحيث يصرف هذا الشعب عن ثاراته المقدسة، ولا من القوى بحيث يقف في وجه التيار.

إن الغرور وحده هو الذي يصور لفرد أو عشرات من الأفراد أو مئات.. أنهم قادرون على أن يحولوا الدماء ماءً، والنار بردًا وسلامًا، وعلى أن يصلوا مرة أخرى بين الشعب وجلاديه، وعلى أن يُنسوا هذا الشعب دماء أبنائه الأطهار، وقد كاد أن يكون في كل بيت ثأر، وفي كل قلب جرح.. هيهات هيهات! لقد فات الأوان.

يا سيادة المشير، ويا أيها المجلس العسكري، غدًا سيقول الشعب كلمته:

هذه أرضي أنا.. وأبي ضحي هنا
وأبي قال لنا.. مزقوا أعداءنا
أنا شعب وفدائي وثورة
ودم يصنع للإنسان فجره
ترتوي أرضي به من كل قطرة
وستبقي مصر حرة مصر حرة

غدًا سيقول الشعب كلمته: (أنا صاحب البلد واللي مش عاجبه يمشي).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) كاتب صحافي