يمثل الفيديو المتداول لإبراهيم عيسى بعنوان “الدولة المصرية وحالة الكُنافة السياسية” لحظة فارقة في خطاب النخبة المحسوبة تقليدياً على “تحالف الانقلاب بـ 30 يونيو”.

 

استخدام مصطلح شعبي ساخر وقاسٍ مثل “الكنافة” لوصف إدارة الدولة ليس مجرد تعليق عابر، بل هو تشخيص سياسي عميق لحالة من التحلل المؤسسي وغياب الرؤية. عيسى، الذي طالما برر سياسات النظام، يبدو هنا كمن يقرع جرس الإنذار الأخير، محذراً من أن استمرار هذا النمط من الحكم العشوائي يقود البلاد نحو سيناريوهات كارثية.

 

التحليل السياسي لهذا الفيديو يخرج من دائرة “النقد الإعلامي” ليدخل في صلب “أزمة الشرعية والإنجاز” التي يواجهها النظام المصري في أخطر مراحله.

 

 

دولة “الارتجال” وغياب العقل السياسي

 

جوهر مصطلح “الكنافة السياسية” الذي استخدمه عيسى يشير إلى غياب “العقل السياسي” الناظم للدولة.

في العلوم السياسية، الدولة ليست مجرد أجهزة أمنية ومشاريع خرسانية، بل هي منظومة قيم وقواعد لإدارة المجال العام وتوزيع الموارد.

 

ما يصفه عيسى بـ“الكنافة” هو استبدال هذه المنظومة بـ“الارتجال اليومي”: قرارات اقتصادية تصدر في الصباح وتُلغى في المساء، أولويات تنفق المليارات على الاستعراض بينما تنهار الخدمات الأساسية، وخطاب رسمي يتخبط بين لغة “المؤامرة” ولغة “الإنجازات الوهمية”.

 

هذا التخبط يعكس أزمة هيكلية في بنية النظام الحالي: مركزية القرار المفرطة في يد “الرجل الواحد” وغياب المؤسسات الوسيطة (برلمان حقيقي، أحزاب، مجتمع مدني) القادرة على ترشيد القرار أو حتى التحذير من مخاطره قبل وقوعها.

 

عندما تغيب السياسة وتحضر “الهندسة” فقط، تتحول الدولة إلى “ماكينة” ضخمة تدور بلا سائق، وتنتج قرارات منفصلة عن الواقع، وهو ما يخلق حالة السيولة واللايقين التي وصفها عيسى ببراعة.

 

استنساخ مشوه للناصرية: قمع بلا عدالة

 

الإشارة إلى “أخطاء عبد الناصر” في سياق حديث عيسى تحمل دلالة سياسية خطيرة.

 

النظام الحالي يستلهم من الناصرية أدواتها السلطوية فقط: تأميم المجال العام، الصوت الواحد، شيطنة المعارضة، والسيطرة الكاملة على مفاصل الدولة.

 

لكنه يفعل ذلك في سياق تاريخي واقتصادي مغاير تماماً، وبدون “المقابل” الذي قدمته الناصرية: العدالة الاجتماعية، الانحياز للفقراء، والمشروع التنموي المستقل.

 

ما ينتقده عيسى ضمناً هو هذا “الاستنساخ المشوه”: نظام يمارس قمع الستينيات لكنه يتبنى سياسات اقتصادية نيوليبرالية متوحشة تسحق الفقراء والطبقة الوسطى. هذه “الخلطة” العجيبة تنتج نظاماً يجمع أسوأ ما في العهدين: استبداد الدولة وعشوائية السوق.

 

النتيجة هي تآكل القاعدة الاجتماعية للنظام؛ فالطبقات التي كانت مستفيدة من “الاستقرار” الأمني باتت تدفع ثمن الفشل الاقتصادي، والطبقات الفقيرة التي كانت تنتظر “حياة كريمة” وجدت نفسها أمام غلاء فاحش وديون لا تنتهي. هنا تصبح “الكنافة” تعبيراً عن نظام فقد هويته وانحيازاته، وبات يحكم بقوة القصور الذاتي فقط.

 

انسداد الأفق: عندما يصبح “الانفجار” مسألة وقت

 

الرسالة السياسية الأخطر في فيديو عيسى هي التحذير من المستقبل. عندما يصف الحالة بأنها “كنافة”، فهو يقول إن الدولة فقدت السيطرة على مآلات الأمور. الانسداد السياسي الكامل، حيث لا توجد قنوات شرعية للتعبير عن الغضب أو التغيير السلمي، يجعل الشارع هو “المرشح الوحيد” لملء الفراغ. التاريخ السياسي يعلمنا أن الأنظمة التي تغلق كل النوافذ تنتهي بكسر الأبواب.

 

عيسى، كجزء من النخبة التي تخشى الفوضى، يدرك أن استمرار سياسة “الجباية” و“تكميم الأفواه” مع فشل اقتصادي مزمن هو وصفة مثالية للانفجار. حديثه ليس دفاعاً عن الديمقراطية بقدر ما هو خوف على “بقاء الدولة” نفسها من تداعيات هذا الفشل. إنه يقول للنظام: “لقد استنفدت رصيدك، وأدواتك القديمة لم تعد تجدي نفعاً، والمركب يغرق ليس بسبب المؤامرات الخارجية، بل بسبب الثقوب التي صنعتموها بأيديكم في الداخل”.

 

باختصار، فيديو “الكنافة السياسية” هو إعلان وفاة لمقولة “الاستقرار” التي روج لها النظام لسنوات، واعتراف من قلب المعسكر المؤيد بأن ما يجري في مصر الآن ليس بناءً لدولة جديدة، بل تفكيك لما تبقى من الدولة القديمة واستبدالها بحالة من العبث السياسي والاقتصادي الذي يهدد الجميع.