بدأت مصر إنشاء خط قطار فائق السرعة بطول 660 كيلومتراً عبر الصحراء لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وتقول السلطات إنه سيخفف الضغط عن القاهرة ويدعم التوسع العمراني.

 

ووفق التفاصيل المعلنة، سيُنقل الركاب والبضائع بسرعة تصل إلى 230 كيلومتراً في الساعة، وقد وصفه وزير النقل كامل الوزير بأنه “قناة سويس جديدة على قضبان”.

 

لكن خلف اللغة الدعائية، يبرز سؤال قاسٍ: هل تُعالج حكومة الانقلاب اختناق النقل فعلاً، أم تُكرر نمط “المشاريع العملاقة” التي تلتهم الأموال بينما تتدهور الخدمات الأساسية وتُترك شبكة السكك القديمة للحوادث؟

 

أرقام ضخمة… وأولويات غائبة

 

العقد الأساسي للمشروع وُقّع عام 2021 بقيمة 3.75 مليار يورو مع تحالف شركات من بينها سيمنز الألمانية لتنفيذ خط يمتد من العين السخنة إلى مرسى مطروح مروراً بالعاصمة الإدارية ومدينة 6 أكتوبر. وتضم المرحلة/الخط الأول 21 محطة، وتعمل الحكومة على تسويق محطات العاصمة الإدارية باعتبارها قاطرة جذب سكاني واستثماري.

 

غير أن “عامل البناء” الذي نقلت عنه المادة المرفقة يقول بصراحة إن المدينة قد لا تخدم إلا السياح أو نقل البضائع، وهي شهادة من قلب الورشة تُلخص فجوة الثقة بين الناس ودعاية الدولة.

 

الحكومة تحاول دائماً بيع هذه المشروعات بوصفها “تنمية”، لكن الواقع أن التنمية ليست خرائط ومحطات فقط، بل قدرة شرائية وسكن فعلي ووظائف إنتاجية، وهذه الملفات هي التي يشعر المواطن أنها تُدار بمنطق الجباية والتقشف لا بمنطق العدالة الاجتماعية.

 

“تنمية صحراوية” فوق مجتمع مُكدّس على النيل

 

تستند الرواية الرسمية إلى أن الصحراء تغطي نحو 95% من مساحة مصر وأن المشروع سيدعم التوسع العمراني في بلد يعيش أغلبه في شريط ضيق حول النيل والدلتا. كما تذكر المادة أن سكان مصر يبلغون نحو 108 ملايين نسمة وأنهم يتركزون على ضفتي النهر وفي الدلتا بكثافات مرتفعة.

 

هذه الحقائق صحيحة كتشخيص جغرافي، لكنها تتحول إلى حيلة سياسية عندما تستخدمها حكومة الانقلاب لتبرير نقل “مركز الثقل” إلى مدن جديدة بلا ضمانات انتقال حقيقي للسكان ولا للوظائف.

 

الأخطر أن المشروع يأتي ضمن نمط ممتد من “التمدّد العمراني القسري” الذي يضع البنية التحتية في مواجهة سؤال: لمن تُبنى المدن؟

 

المادة تشير إلى أن العاصمة الإدارية الجديدة وحدها بلغت كلفتها نحو 58 مليار دولار وافتُتحت عام 2024. وعندما تصبح المدن “منتجات” تُسوّق باللافتات ومراكز التسوق بدل الخدمات العامة والقدرة على السكن، تتحول شبكة النقل إلى خادم لمشروعات النخبة لا لحياة الناس اليومية.

 

سلامة السكك أولاً… لكن الحكومة تهرب للأمام

 

تقول المادة إن تشغيل الخط الأول (الخط الأخضر) متوقع في 2028، ضمن شبكة مستقبلية إجمالي طولها 1985 كيلومتراً تشمل “الخط الأزرق” بمحاذاة النيل و“الخط الأحمر” الذي يربط الغردقة وسفاجا بشمال الأقصر.

 

كما تأمل الحكومة نقل نحو 1.5 مليون راكب يومياً بحلول 2030، بينما يستخدم الشبكة الحالية نحو مليون شخص يومياً.

 

هذه الوعود تبدو كبيرة على الورق، لكن الاختبار الحقيقي ليس في السرعة القصوى، بل في السلامة والانضباط والصيانة والتشغيل اليومي.

 

المادة نفسها تُقر بأن شبكة السكك الحالية من أقدم الشبكات في الشرق الأوسط وتتعرض لحوادث متكررة، وأن عام 2024 شهد نحو 200 حادث قطار في البلاد.

 

هنا بيت القصيد: حكومة الانقلاب تبيع “قطاراً لامعاً” في الصحراء بينما تترك قطارات الناس على خطوط قديمة تواجه التصادم والخروج عن المسار. وإذا لم تُجب الدولة بشفافية: كم سيُنفق سنوياً على صيانة الشبكة القديمة؟ وما خطة خفض الحوادث؟

 

فستظل “القناة على القضبان” شعاراً يلمع فوق ركام سكك متعبة، ويظل المواطن يدفع ثمن الاستعراض من أمنه ووقته وماله.