في سابقة أثارت جدلاً واسعاً بين الأوساط التراثية والشعبية، تحولت ساحة مسجد محمد علي بالقلعة إلى ما يشبه "قاعة أفراح مفتوحة"، وسط مخاوف جدية من تضرر الأثر التاريخي الفريد جراء الاستخدام التجاري المكثف.

 

القضية تجاوزت حدود الانتقاد العابر لتتحول إلى "إنذار أحمر" أطلقه نخبة من كبار خبراء الآثار المصريين، الذين حذروا من أن استمرار هذا النهج يهدد بضياع هوية المكان وتعريض عناصره المعمارية لتلف لا يمكن إصلاحه.

 

الأثر ليس مجرد ديكور

 

حذرت الدكتورة مونيكا حنا، العميد المؤسس لكلية الآثار بالأكاديمية العربية وعالمة المصريات البارزة، من تحويل الأماكن الأثرية إلى مجرد "خلفيات للتصوير".

 

وترى حنا أن التعامل مع الأثر كأنه قاعة مناسبات يُفقد المكان قدسيته وقيمته التاريخية، مشيرة إلى أن التجهيزات الثقيلة والإضاءة والضوضاء المصاحبة للأفراح تمثل "عدواناً مباشراً" على سلامة المبنى، وتتعارض مع المعايير الدولية للحفاظ على التراث التي تلتزم بها مصر.


 

الأهرامات والمساجد مناطق مقدسة

 

بلهجة حاسمة، رفضت عالمة الآثار الكبير الدكتورة منال كمال فكرة إقامة الأفراح داخل المناطق الأثرية ذات الطابع الديني والقدسي، مثل منطقة الأهرامات والمساجد التاريخية.

 

وأكد حواس في تصريحات سابقة أن "الهرم منطقة مقدسة" وكذلك المساجد، وأن استغلال هذه الأماكن يجب أن يقتصر على السياحة الثقافية الراقية التي تحترم جلال المكان، وليس تحويلها لساحات صخب ورقص تعرض "هيبة الدولة وتاريخها" للاهتزاز أمام العالم.

 

جريمة مكتملة الأركان

 

وصف الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، ما يحدث داخل صحن مسجد محمد علي بأنه "جريمة مكتملة الأركان".

 

وأشار ريحان إلى أن الفيديوهات المتداولة أظهرت تحويل الصحن إلى ساحة حفلات بتركيب مسارح ومعدات ثقيلة، مما يعرض الأرضيات الرخامية النادرة للتهشم، مطالباً بمحاسبة المسؤولين عن هذا "الانتهاك الصارخ" لحرمة الأثر، ومؤكداً أن "كرامة الأثر أهم من أي عائد مادي".

 

استباحة للتراث الإسلامي

 

من جانبه، انتقد الدكتور مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، استباحة المساجد التاريخية تحت مسمى "تنمية الموارد".

 

وأوضح الكسباني أن العمارة الإسلامية لها فلسفة ووظيفة روحية لا يجوز تجاوزها، وأن الزخارف والنقوش الدقيقة في مسجد مثل محمد علي حساسة جداً للاهتزازات والحرارة الناتجة عن التجهيزات الحديثة، مما يجعل إقامة مثل هذه الفعاليات "مغامرة غير محسوبة" تهدد سلامة المبنى إنشائياً وفنياً.

 

كنوز لا تحتمل العبث

 

أكد الدكتور رأفت النبراوي، عميد كلية الآثار الأسبق بجامعة القاهرة والخبير في الآثار الإسلامية، أن القاهرة التاريخية تمتلك كنوزاً معمارية فريدة يجب صيانتها بحذر شديد.

 

وأشار إلى أن التعامل مع الآثار الإسلامية كسلعة تجارية يعرضها للخطر، خاصة أن عمليات الترميم مكلفة ومعقدة، وأي تلف يصيب العناصر الأصلية قد يكون من المستحيل تعويضه، داعياً لوقف أي أنشطة لا تتناسب مع طبيعة وقيمة هذه المواقع.

 

في الختام، يُجمع الخبراء على أن الحل ليس في المنع المطلق، بل في الإدارة الرشيدة التي تضع "حماية الأثر" فوق كل اعتبار، وتمنع تحول التراث الوطني إلى سلعة تُستهلك وتُدمر تحت وطأة البحث عن "الربح السريع".