في مشهد عبثي جديد ينضم إلى سلسلة الانهيارات التي تضرب مؤسسات مصر في "زمن الانقلاب"، تحولت نقابة المهن الموسيقية من صرح فني عريق إلى ساحة حرب مفتوحة، تُدار فيها المعارك بـ"التسريبات" والشتائم وتلفيق التهم. ما يحدث بين النقيب مصطفى كامل ووكيله حلمي عبد الباقي ليس مجرد خلاف نقابي عابر، بل هو مرآة عاكسة لحالة الفوضى، الدسائس، وغياب القانون التي باتت السمة المميزة لإدارة مختلف القطاعات في البلاد، حيث تحولت النقابات من كيانات خدمية إلى "إقطاعيات" تُدار بمنطق العصابات وتكميم الأفواه.

 

الأزمة التي انفجرت مؤخرًا لتملأ الفضاء الإعلامي بالفضائح، كشفت عن المستور داخل أروقة النقابة: فساد مالي، إهانات متبادلة بأقذع الألفاظ، وصراعات دموية على الكراسي، في وقت يعاني فيه صغار الموسيقيين من ضيق العيش وتدني الخدمات الصحية والاجتماعية.

 

"التسريبات".. سلاح الردع القذر

 

لم تكن الأزمة وليدة اللحظة، بل كانت نارًا تحت الرماد، حتى أشعلتها "التسريبات الصوتية". مصادر مطلعة كشفت أن الصراع بدأ عندما استشعر بعض أعضاء المجلس نية النقيب مصطفى كامل الإطاحة بهم بسبب ملفات فساد وتقصير في مشاريع الإسكان والرعاية الصحية. وكعادة الأنظمة الشمولية المصغرة، لجأ هؤلاء الأعضاء إلى التآمر لعقد جلسة سرية تهدف لعزل النقيب.

 

لكن الرد جاء سريعًا وقاسيًا؛ تسريب صوتي منسوب لـ"كامل" يكيل فيه السباب والاتهامات لرفاقه في المجلس. ورغم أن النقيب زعم أن التسجيل "قديم" ويعود لأغسطس الماضي، إلا أن توقيت ظهوره الآن يؤكد أن النقابة تدار بمنطق "امسك لي واقطع لك"، وأن الملفات تُستخدم فقط عند الحاجة لتصفية الخصوم، لا لتحقيق العدالة.

 

"كرسي النقيب".. صراع النفوذ والمال

 

في تصريحاته، حاول مصطفى كامل تصوير نفسه كـ"محارب للفساد" يواجه "شلة" تحاول تعطيل التحقيقات، متهمًا خصومه بالطمع في "كرسي النقيب". لكن هذا الدفاع لم يقنع الكثيرين، خاصة في ظل الاتهامات المتبادلة بأن الجميع متورط في لعبة المصالح.

 

اعتراف كامل بأن زملاءه "حلفوا على المصحف كذبًا" وأنهم كانوا يعلمون بوقائع فساد وسكتوا عنها، هو إدانة للنقيب قبل المجلس. فكيف سكت "حامي الفن" على وجود فاسدين بجواره طوال هذه المدة؟ ولماذا لم يتحرك إلا عندما اهتز كرسيه؟ هذه الأسئلة تفضح العقلية التي تدار بها المؤسسة: الصمت مقابل الولاء، والحرب عند الاختلاف.

 

حلمي عبد الباقي.. "تكميم الأفواه" وسياسة الشطب

 

على الجانب الآخر، خرج حلمي عبد الباقي، وكيل أول النقابة، ليصرخ من سياسة "تكميم الأفواه" التي يمارسها النقيب. قرار إحالته للتحقيق في وقائع مر عليها عام ونصف، وصفه عبد الباقي بأنه "تصفية حسابات" ومحاولة مفضوحة للإطاحة به عبر سيناريو مكرر ومعروف: "تحقيق صوري، ثم شطب، ثم طرد".

 

استدعاء عبد الباقي لقصة الفنان إيمان البحر درويش، الذي شُطب وحصل على أحكام قضائية لم تُنفذ، يلقي الضوء على انهيار دولة القانون داخل النقابة. فالنقيب يتصرف كـ"حاكم بأمره"، يملك سلطة المنح والمنع، الشطب والإعادة، دون رقيب أو حسيب، مستندًا إلى نفوذ يحميه من المساءلة، تمامًا كما تدار الدولة الكبرى.

 

الجمعية العمومية.. الضحية الغائبة

 

وسط هذا الضجيج، يغيب صوت العقل وصوت الأعضاء الحقيقيين. الجمعية العمومية التي يُفترض أنها صاحبة السلطة العليا، باتت مجرد "كومبارس" في مسرحية هزلية. الموسيقيون الذين انتظروا حلولًا لأزمات المعاشات والعلاج، وجدوا أنفسهم أمام مجلس منشغل بحماية مصالحه الخاصة وتوزيع الغنائم أو تبادل الاتهامات.

 

ما يجري في نقابة المهن الموسيقية هو نموذج مصغر للكارثة التي تعيشها مصر. مؤسسات تآكلت من الداخل، قيادات لا تملك رؤية ولا كفاءة بل تملك "أدوات بطش"، وشعب (أو جمعية عمومية) يدفع الثمن من مستقبله وكرامته. إنها فوضى منظمة، تؤكد أن الإصلاح في ظل هذه العقلية الأمنية والإقصائية هو ضرب من المستحيل.