عبد الناصر سلامة
رئيس تحرير صحيفة الأهرام الأسبق
مع اقتراب ذكرى، ثورة أو انتفاضة أو أحداث، 25 يناير 2011 في مصر، حيث مسمياتها المتعددة، وأيضًا ما يطلق عليه إجمالًا «ثورات الربيع العربي» من مصر وتونس وليبيا، حتى اليمن وسوريا والسودان، يتجدد الجدل مبكرًا حول، أسبابها وجدواها، من يقف خلفها وماذا حققت.. وعلى الرغم من كشف النقاب عن تفاصيل تآمر مثيرة، سبقت وواكبت تلك الأحداث، إلا أنها في نهاية الأمر، تزيد من حدة النقاش والخلاف، بل الاتهامات المتبادلة، بين من شاركوا في الأحداث، على مختلف انتماءاتهم، ومن تحفظوا أو امتنعوا، على مختلف مشاربهم.
ربما يكمن سبب استمرار ذلك الجدل، في عنوان رئيسي، هو الفشل الذريع الذي وصلت إليه تلك الدول مجتمعة، بين تراجع حريات غير مسبوق في مصر، انسداد حقوقي في تونس، انقسام جغرافي لم يكن متوقعًا في ليبيا، أما عن اليمن وسوريا والسودان، فحدث ولا حرج، حيث لغة السلاح تعلو فوق كل اللغات، الانقسامات طالت جميع الطوائف، ناهيك من تدخلات خارجية بلا حدود، تصل حد الاحتلال الأجنبي، استنزاف الثروات، انعدام الأمل في استقلال حقيقي، على المدى المنظور، في الوقت الذي ينشغل فيه العالم، بشكل عام، بمزيد من القلاقل والانقسامات.
من حيث الشكل، كانت الحالة المصرية، الأقل استنزافًا وخسارة من مثيلاتها، ربما لسبب رئيسي، يتعلق بطبيعة الشعب المصري، الذي لا يميل إلى العنف، إضافة للتقدير الواضح – حينذاك- للمؤسسة العسكرية، ما جعل منها ثورة سلمية، إلى حد كبير، رغم مقتل المئات، خلال الأسابيع الأولى للثورة، في ظروف مريبة، لم تنل تحقيقًا كافيًا، ثم مقتل الآلاف فيما بعد، خلال الإطاحة بحكم جماعة الإخوان، ذلك أن حالات القتل والعنف وتصفية الحسابات، كانت تتركز على أماكن التجمعات فقط، لم تمتد أبدًا إلى الشارع، فيما يشبه الحرب الأهلية، التي شاهدناها ببلدان أخرى في المنطقة.. رغم ذلك، يخشى عامة الشعب، تجدد مثل تلك الأحداث، لما لها من عواقب، قد لا تكون محسوبة، مثلما حدث في دول الجوار، كما تكمن المخاوف بالدرجة الأولى من التدخلات الأجنبية، بأشكالها المختلفة، سواء بنشر ما أطلقت عليه كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي حينذاك (الفوضى الخلاقة)، بلا أهداف واضحة، أو نشر قوات أجنبية، تحت أي مسمى، وبأي ذرائع، وهو الأمر الذي يجعل من مجرد الحديث عن نزول الشارع، ضربًا من الشطط، لا يجد تجاوبًا من أي من الفئات، أو الطوائف، رغم ضنك الحياة، نتيجة سياسات داخلية خاطئة. المحصلة النهائية، للأغلبية الساحقة من الشعب المصري الآن، تنظر إلى تاريخ 25 يناير 2011، على أنه كابوس عاد بالبلاد إلى عصور التخلف، فقد كانت الصحافة أو الإعلام قبل ذلك التاريخ، أكثر ازدهارًا، كما كانت الحالة المعيشية أكثر ثراءً، بينما كان الشعب أكثر التحامًا، في الوقت الذي كانت فيه السجون شبه خاوية من سياسيين، إلا بين الحين والآخر، حالات فردية، لمدد محدودة، نتيجة أحداث متفاوتة، في الوقت الذي ينظر فيه البعض إلى تلك الأحداث، على أنها كانت مؤامرة واضحة المعالم، بدءًا من تدريبات لعدد كبير من الشباب، في عدد من دول العالم، مرورًا بتمويل أجنبي أثبتته الأجهزة الأمنية بالمستندات والوثائق، وانتهاء باعترافات مخابراتية أمريكية، حول تورطها في تلك الأحداث، لنشر الفوضى، وتدمير الجيوش، وتقسيم الدول، إلى غير ذلك من كثير، وقد فشلت في الحالة المصرية بشكل كبير.
الغريب في الأمر، أن الأحداث دارت دورتها في مصر على مدى 40 شهرًا بالتمام والكمال، بدأت بالثورة على الحكم العسكري، ممثلًا في الرئيس الأسبق حسني مبارك في 25 يناير 2011، لتتوج بتنصيب الرئيس العسكري عبدالفتاح السيسي في 3 يونيو 2014، ليؤكد العسكر أنهم القوة الوحيدة في البلاد، بلا منازع، بعد أن أداروا المشهد بدهاء بالغ لحسابهم الخاص، في غياب أحزاب سياسية حقيقية، انبطاح النخبة الثقافية المؤهلة، هشاشة منظمات المجتمع المدني، ونقابات مهنية مهترئة، وعمالية أصبحت من الماضي، ما سهل على المؤسسة العسكرية، الخلاص من المنافس الأوحد بالساحة، ممثلًا في جماعة الإخوان المسلمين.
هذه النتيجة، كانت كفيلة بأن يعيد الشعب المصري النظر في جدوى حراك الشارع، في غياب البديل المؤهل لقيادة البلاد، خصوصًا في ظل التحديات الخارجية المحيطة، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، إضافة إلى التوترات الداخلية، الطبيعية أحيانًا، والمصطنعة في أحيان كثيرة، ما فرض حالة الرضوخ للأمر الواقع، رغم مرارته على كل الأصعدة، باعتبار أن الحالة الراهنة بمساوئها العديدة، هي نتاج تلك الأحداث الثورية، التي قد يسفر تكرارها مزيدا من الأزمات والاضطرابات. ويمكن الإشارة إلى مجموعة من الملاحظات:
أولًا: الإعداد الأجنبي لأحداث 25 يناير كان واضحًا منذ اللحظة الأولى، بل ما قبل ذلك، إلا أن النظام الرسمي لم يتعامل مع الأمر بجدية، ما اعتبر إخفاقًا أمنيًا، في الوقت الذي ألقى فيه الأمن المسؤولية على الرئيس مبارك شخصيًا، لأنه كان يرفض التعامل مع المعلومات الواردة بجدية، وهو صاحب المقولة الشهيرة (خليهم يتسلوا).
ثانيًا: قوات الجيش كانت تستطيع فض التجمعات في مهدها، أو حتى بعد ذلك، إلا أنها لم تفعل، لأسباب قالت إنها تتعلق بالانحياز إلى الشعب، وإرادة الشعب، غير أن المراقبين اعتبروا أن رغبة الجيش تلاقت مع الرغبة الشعبية، في منع توريث الحكم إلى جمال مبارك، باعتباره مدنيًا، في سابقة ترفضها المؤسسة العسكرية بشكل عام.
ثالثًا: أدار المجلس العسكري الأحداث باحترافية عالية، في فترات متفاوتة، من خلال خطط محكمة، لتسفر في نهاية الأمر، عن إحكام قبضتهم على البلاد وكرسي الحكم مرة أخرى، بعد عام واحد من حكم الإخوان المثير للجدل، وعام آخر تحت عنوان الفترة الانتقالية، التي كانت تدار فيها الأوضاع عسكريًا أيضًا، ولكن من خلف الستار.
رابعًا: ثبت بالدليل القاطع، أن القوى المدنية في مصر، بأشكالها المختلفة، غير مؤهلة للقيادة، نتيجة عوامل كثيرة، تنطلق في معظمها من اختلافها أيديولوجيًا إلى حدود متطرفة مقيتة، لا يستطيع معها أي طرف تحمُّل الطرف الآخر، أو مساعدته على النجاح والنهوض بالبلاد، حال اعتلائه سدة الحكم، بل على النقيض، سوف يعملون على إفشاله، وهو ما حدث بالفعل.
خامسًا: أصبح من الصعب الآن، التعويل على أجيال وقيادات 25 يناير، في تصدر المشهد السياسي أو الثوري، بأي شكل من الأشكال، ما يشير إلى أنه لم يعد مناسبًا في الوقت الراهن، تكرار المشهد، أو الوثوق بهؤلاء أو أولئك، انتظارًا لأجيال جديدة تحمل الراية، بعد الاستفادة من قراءة التاريخ، لتلافي أخطاء الماضي، بتحقيق الهدف الأسمى أولًا وهو، الإيمان بالانتصار للوطن، وليس للأيديولوجية.
من هنا، فإن كل النتائج، سواء في مصر أو غيرها، تؤكد أننا أمام خريف عربي، متكامل الأركان، حيث مزيد من الكبت والقهر، من الفساد وسوء الإدارة، من الانقسام والتشرذم، سواء على المستوى الداخلي، ممثلا في حالة التيه والضياع والهجرة والبطالة والجوع، أو المستوى الخارجي، ممثلًا في تراجع الشعور القومي العربي، خصوصًا لدى قادة هذا الزمان، الذين آثروا الانغلاق والانبطاح ضمانًا لاستمراريتهم، حتى فيما يتعلق بأهم قضايا الأمة، وهي القضية الفلسطينية، بل قبلوا بما هو أكثر، وهو العبث بالمعتقدات، والقبول بما تسمى الديانة الإبراهيمية، وغيرها من الإملاءات الخارجية، التي قد تكون سببًا رئيسيًا في انفجار الأوضاع هنا أو هناك، بين عشية وضحاها، في محاولة لتصحيح ما أفسده الخريف المستورد، وصولًا إلى ربيع بصناعة محلية خالصة.

