في مشهد يعيد تعريف المأساة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، يواجه قطاع غزة اليوم كارثة مركبة تفوق قدرة البشر على الاحتمال. فبينما يواصل الاحتلال الإسرائيلي إحكام قبضته الخانقة على المعابر، مانعًا حبة الدواء ورغيف الخبز، ضرب منخفض جوي عنيف ما تبقى من رمق الحياة في القطاع، ليحول خيام النازحين العارية إلى مستنقعات من الوحل والموت.

 

تحذيرات شديدة اللهجة أطلقها المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، واصفًا الوضع بـ"غير المسبوق"، حيث بات ملايين المدنيين محاصرين بين مطرقة القصف والحصار، وسندان البرد القارس والسيول، في ظل عجز دولي مشين عن إدخال شاحنة مساعدات واحدة تنقذ ما يمكن إنقاذه. إن ما يحدث الآن ليس مجرد أزمة طقس أو نقص في الإمدادات، بل هو حكم بالإعدام البطيء يُنفذ ضد شعب كامل، تُرك وحيدًا يواجه الطبيعة والترسانة العسكرية في آن واحد.

 

سلاح "التجويع والإغلاق".. الاحتلال يخنق الأنفاس

 

لم يكتفِ الاحتلال بآلة القتل العسكرية، بل لجأ إلى سلاح أكثر فتكًا وجبنًا: "إغلاق المعابر". وفقًا للبيانات الرسمية، يواصل الاحتلال منع إدخال المساعدات الغذائية والطبية والإغاثية، في وقت وصلت فيه الاحتياجات الإنسانية إلى ذروتها. هذا الإغلاق المتعمد أدى إلى نفاد شبه كامل للمواد الأساسية، خاصة في مراكز الإيواء المكتظة.

 

المكتب الإعلامي الحكومي كان واضحًا في توجيه أصابع الاتهام، محملًا الاحتلال المسؤولية الكاملة والمباشرة عن هذا الواقع الكارثي. فسياسات التعطيل والمنع ليست عشوائية، بل هي خطة ممنهجة لكسر إرادة الغزيين عبر بوابة الجوع والمرض، مما يضع المجتمع الدولي ومؤسساته الأممية أمام اختبار أخلاقي سقطت فيه سقوطًا مدويًا، بعد أن عجزت ضغوطهم "الناعمة" عن فتح ممر إنساني آمن.

 

طوفان من الوحل.. 27 ألف خيمة في مهب الريح

 

التداعيات الميدانية للمنخفض الجوي كشفت عن هشاشة الوضع المأساوي الذي يعيشه النازحون. الأرقام التي أعلنها المكتب صادمة؛ فقد تسببت الرياح العاتية والأمطار الغزيرة في غرق ما يقرب من 27 ألف خيمة. تخيل عشرات الآلاف من الأسر، بأطفالها ونسائها وشيوخها، يجدون أنفسهم فجأة بلا سقف قماشي يحميهم، وسط برك من المياه والطين، وفي درجات حرارة تقترب من التجمد.

 

ولم يتوقف الأمر عند الخيام، بل انهار 13 منزلًا متصدعًا، لتضاف أسر جديدة إلى قوافل المشردين في العراء. هذه الكارثة الجوية عرت تمامًا واقع الإيواء في غزة، وأثبتت أن "الحلول المؤقتة" لم تعد تجدي نفعًا أمام قسوة الطبيعة وطول أمد العدوان، وسط حاجة ماسة لخيام مقاومة للعوامل الجوية ومواد تدفئة باتت عملة نادرة في القطاع.

 

مليون ونصف نازح.. جحيم مراكز الإيواء

 

المأساة تتجسد في أرقام النازحين؛ أكثر من مليون ونصف مليون إنسان مكدسون في مراكز إيواء تفتقر لأدنى مقومات الكرامة البشرية. هذه المراكز، التي تحولت إلى بؤر للمعاناة، تعاني من اكتظاظ خانق يجعل من المستحيل تطبيق أي معايير صحية أو إنسانية.

 

النازحون هناك لا يواجهون البرد فقط، بل يواجهون الموت بأشكال متعددة؛ نقص الغذاء، انعدام الخصوصية، وتفشي الأمراض. ومع دخول المنخفض الجوي، تحولت هذه المراكز إلى "ثلاجات بشرية" كبيرة، حيث يرتجف الأطفال من البرد دون أغطية كافية، وينظر الآباء بعجز إلى عائلاتهم التي ينهشها الصقيع.

 

العطش وانهيار المنظومة الصحية.. الضربة القاضية

 

في حلقة جديدة من مسلسل الانهيار، كشف المكتب الإعلامي عن تعطل خطوط نقل المياه في عدد كبير من مراكز الإيواء نتيجة المنخفض، ما فاقم أزمة العطش ونقص المياه النظيفة. وكأن النازح لا يكفيه الجوع والبرد، ليلاحقه العطش وخطر الأمراض المنقولة عبر المياه الملوثة.

 

وعلى الصعيد الصحي، خرجت عشرات النقاط الطبية المؤقتة عن الخدمة. هذه النقاط كانت تمثل "طوق النجاة" الأخير للجرحى والمرضى في ظل دمار المستشفيات الرئيسية. تعطلها بسبب الأحوال الجوية يعني حرمان آلاف المرضى من جرعات الدواء وتغيير الضمادات، في وقت تعاني فيه المستودعات من "صفر" مخزون في الأدوية والمستلزمات الطبية.

 

نداء استغاثة أخير.. هل يسمع العالم؟

 

أكد المكتب الإعلامي الحكومي أن ما يجري هو "كارثة إنسانية بكل المقاييس"، وأن استمرار إغلاق المعابر يضاعف من فاتورة الموت. النداءات الموجهة للمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لم تعد تطلب "رفاهية"، بل تطلب "حق البقاء".

 

إن إنقاذ المدنيين في غزة لم يعد يحتمل التأجيل لساعات، فكل دقيقة تمر تعني طفلًا يتجمد من البرد، أو جريحًا يموت لغياب العلاج، أو أسرة تغرق خيمتها في الوحل. غزة اليوم لا تواجه الاحتلال وحده، بل تواجه تواطؤ الصمت العالمي وقسوة الطبيعة، في انتظار ضمير إنساني قد يصحو لفتح المعابر قبل أن يتحول القطاع إلى مقبرة مفتوحة تغطيها الثلوج والوحل.