في زمن كان يُفترض أن يحصد فيه محمد وياسين وصالح ثمار التعليم وبداية تكوين أسرة وحياة مستقرة، يجد هؤلاء الشباب أنفسهم يجوبون الشقق والفيلات لتقديم خدمات التنظيف وغسل السجاد والطهي، فقط للبقاء على قيد الحياة. المأساة هنا ليست في شرف العمل اليدوي، بل في سقوط الدولة تحت حكم العسكر عن أي التزام بتوفير حد أدنى من العدالة والفرص، حتى صار خريج الجامعة يحمل أدوات التنظيف بدلًا من حمل مشروعه المهني أو أسرته الجديدة. مشهد شباب في مطلع العقد الثالث من العمر، اثنان منهم جامعيان وثالث يحمل مؤهلًا متوسطًا، يتحولون إلى عمالة منزلية مضطرة، هو شهادة إدانة صريحة لنظام انقلب على المجتمع قبل أن ينقلب على إرادته السياسية.

 

شباب تحت رحمة الانقلاب

 

رسميًا، تتحدث الأرقام عن معدل بطالة عام يقارب 7.2% في 2024، لكن هذه النسبة المخففة تُخفي حقيقة أن بطالة الشباب وحدهم تقترب من 18.7%، أي أن قرابة واحد من كل خمسة شباب في سوق العمل بلا وظيفة، فضلًا عن أن الشباب يمثلون نحو ثلثي إجمالي العاطلين في مصر. هذه الأرقام تعني ببساطة أن جيلًا كاملًا يُدفع عمدًا خارج السوق، أو يُترك في هوامشه بأجور هزيلة، بينما تتباهى السلطة ببيانات تجميلية لا تعكس واقع انسحاب الشباب من سوق العمل أو استمرارهم في بطالة مقنّعة. في ظل هذا الخنق الاقتصادي، يصبح الانتقال من حلم الوظيفة المستقرة والزواج وتكوين أسرة، إلى أي عمل يوفّر حدًا أدنى من الدخل ولو على حساب المكانة الاجتماعية، مسارًا قسريًا لا خيارًا حرًا.

 

من طموح الجامعة إلى خدمة المنازل

 

محمد القادم من الشرقية، وياسين من الجيزة، وصالح من بني سويف، هم نماذج لآلاف الشباب الذين وجدوا أنفسهم يطرقون أبواب المنازل لا أبواب الشركات، يحملون المكانس ومواد التنظيف بدلًا من السير الذاتية والشهادات الجامعية. الأعمال التي يقدمونها – تنظيف الشقق والفيلات، غسل السجاد والمفروشات، وأحيانًا الطهي – لا تعكس فشلًا شخصيًا بقدر ما تكشف انهيار عقد اجتماعي كان يعد الشاب بأن التعليم بوابته الطبيعية إلى موقع اجتماعي أفضل، قبل أن تحوّله دولة العسكر إلى ورقة بلا قيمة أمام جدار البطالة وغلاء المعيشة. يؤكد الخبير الاقتصادي عبد الشافي مقلد أن السبب الجوهري لهذا الانقلاب في المسارات الحياتية هو المتغير الاقتصادي الكارثي، فالشاب الذي يسدّ النظام في وجهه كل الأبواب يجد نفسه مضطرًا لدهس ما تبقّى من "برستيج" اجتماعي مقابل لقمة عيش تحفظ له وأسرته الحد الأدنى من البقاء.

 

اقتصاد منهار وديون قاتلة

 

في الخلفية تقف سياسات مالية ونقدية مدمِّرة ربطت مصير البلد بصندوق النقد الدولي، حيث اقترضت مصر منذ 2017 نحو 20 مليار دولار في ثلاث برامج، قبل أن تُضاف إليها حزمة جديدة بقيمة 8 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة، مقابل وصفات تقشف وخصخصة يدفع ثمنها الفقراء أولًا. تقارير حقوقية دولية وثّقت أن أحد برامج الصندوق الأخيرة تزامن مع تراجع حاد لقيمة الجنيه بما يقارب النصف منذ 2022، وقفزات في أسعار الغذاء وصلت إلى أكثر من 37% في عام واحد، ما التهم أي زيادة شكلية في الدعم أو الأجور وترك ملايين الأسر تحت خط الكرامة الإنسانية. وبرغم ضخ ما يزيد على 50 مليار دولار من حزم تمويلية مشتركة بين الاتحاد الأوروبي والإمارات وصندوق النقد والبنك الدولي لإنقاذ ميزان المدفوعات، لم تنعكس هذه التدفقات على فرص عمل حقيقية أو تخفيف ملموس للفقر الذي تشير تقديرات منشورة إلى وصوله لنحو 35.7% من السكان، بل استمرت السلطة في مشروعات ضخمة غير منتجة وتوسّع عسكري في الاقتصاد يدمر القطاع الخاص ويخنق أي أمل في تشغيل واسع للشباب.

 

تفكك اجتماعي ومستقبل مسروق

 

مع انسداد الأفق، تنتشر العمالة المنزلية بين الشباب كشبكة نجاة اضطرارية، مستفيدة من تطبيقات إلكترونية ومنصات رقمية تتيح تسويق الخدمات وتكوين فرق عمل مدرَّبة ظاهرًا، لكنها في العمق تعبّر عن هبوط قسري لطبقات كاملة من أبناء الطبقة المتوسطة إلى هامش اجتماعي كان يُنظر إليه سابقًا على أنه "دون" مستوى تعليمهم وبيئاتهم. يؤكد أستاذ الاجتماع السياسي سعيد صادق أن العمل المنزلي ليس جديدًا على المجتمع المصري، لكنه يشير إلى أن تفاقم الفقر وتدهور مستويات المعيشة واتساع البطالة في زمن الانقلاب جعل الظاهرة أكثر كثافة بين الذكور، وأكثر قبولًا اجتماعيًا بحكم الحاجة، لا بحكم قناعة حرة أو خيارات واسعة. حين يُدفَع شباب مثل محمد وياسين وصالح إلى هذا المسار بلا حماية نقابية حقيقية ولا شبكة أمان اجتماعي أو سياسات تشغيل جادة، تتحول القصة من مجرد تكيف فردي مع الأزمة إلى جريمة سياسية مكتملة الأركان، عنوانها "نظام يلتهم مستقبل أبنائه"، ويفتح الباب لانفجارات اجتماعية قادمة مهما طال إنكار السلطة وتجميل أرقامها.