لم تعد قضية نزع الملكية في مصر مجرد إجراء إداري لتطوير البنية التحتية كما تروج الآلة الإعلامية للنظام، بل تحولت في عهد عبد الفتاح السيسي إلى "عقيدة حكم" تقوم على استباحة أملاك المواطنين، وتفكيك المجتمعات المحلية، وبيع الأراضي للمستثمر الأجنبي مقابل حفنة من الدولارات، بينما يُلقى بالأهالي في المجهول.
أحدث فصول هذه المأساة تدور رحاها الآن في منطقة "علم الروم" بمحافظة مرسى مطروح، حيث يواجه الأهالي مخططاً حكومياً لا يستهدف فقط أراضيهم، بل يهدد وجودهم الاقتصادي والاجتماعي لصالح صفقة استثمارية مع شركة "الديار" القطرية.
خديعة التعويضات.. الحكومة تنكث وعودها
كشفت التطورات الأخيرة في ملف "علم الروم" عن الوجه القبيح لإدارة العسكر للملفات الاقتصادية، حيث تراجعت حكومة الانقلاب بشكل مفاجئ وفج عن القيم المالية التي سبق التلويح بها كتعويضات للأهالي. وبدلاً من الالتزام بالاتفاقات الأولية، ابتدعت الحكومة معايير جديدة "فنية" لتبرير خفض قيمة التعويضات، مدعية أن التقييم سيتم بناءً على "مستوى تشطيب المباني"، في محاولة بائسة لتقليص المستحقات المالية لأدنى مستوى ممكن.
وتشير التقارير الموثقة، بما فيها ما نشره موقع "مدى مصر"، إلى أن التعويضات المقترحة لا تعدو كونها "فتاتاً" لا يتجاوز 1% من القيمة السوقية الحقيقية للأرض، خاصة عند مقارنتها بحجم الصفقة المليارية الموقعة مع الجانب القطري (3.5 مليار دولار).
وتعتمد الحكومة في تقديراتها على أسعار قديمة تعود لخمس سنوات مضت (أسعار منطقة رأس الحكمة قديماً)، متجاهلة تماماً القفزات الجنونية في أسعار العقارات وانهيار قيمة العملة المحلية، ما يجعل عرض الحكومة أقرب إلى عملية "مصادرة مقنعة" منه إلى تعويض عادل.
تدمير الاقتصاد المحلي.. سكن بلا هوية ولا رزق
تتجاوز الجريمة الحكومية في "علم الروم" الشق المالي لتمس عصب الحياة للسكان. فقد اكتشف الأهالي أن "البديل" الذي تلوح به الدولة هو مجرد قطع أراضٍ سكنية في مناطق صحراوية، خالية تماماً من الظهير الزراعي الذي يعتمد عليه السكان كمصدر رزق رئيسي وأساسي.
إن إصرار الدولة على حرمان الأهالي من الأراضي الزراعية يكشف عن جهل مدقع -أو تجاهل متعمد- لطبيعة الحياة القبلية والريفية في مطروح. فالمزارع هناك ليس مجرد ساكن في "وحدة خرسانية"، بل هو منتج يعيش من أرضه. هذا التحول القسري يهدد بتحويل مئات الأسر المنتجة إلى عائلات مستهلكة تعاني من البطالة والفقر، ويفكك الروابط الاجتماعية للقبائل التي ارتبطت بأرضها لعقود، مما يؤكد أن النظام لا يرى في المواطن سوى "عقبة" يجب إزالتها لتسليم الأرض للمستثمر.
التلاعب بالمساحات وغياب الشفافية
في ظل غياب أي رقابة برلمانية أو قضائية حقيقية، تمارس هيئة المجتمعات العمرانية سياسة "التعمية" في رفع المساحات. وقد أكدت اللجان التمثيلية للأهالي (لجنتي الـ15 والـ45) أنه لا يوجد أي دليل مادي يؤكد صحة التقديرات الحكومية للمساحات المنزوعة، وأن العملية برمتها تدار في غرف مغلقة دون أي شفافية.
وتلعب السلطة لعبة خبيثة من خلال الضغط على كبار الملاك والقيادات القبلية، مستغلة تركز الملكيات في يد عدد محدود من الأسر لفرض سياسة الأمر الواقع، وكسر شوكة المقاومة الأهلية، لتقليل الفاتورة الإجمالية للتعويضات، وهو ما يعكس عقلية "المقاول" التي تدير الدولة، والتي تسعى لتعظيم الربح ولو على حساب دماء واستقرار المواطنين.
من الوراق إلى العريش.. منهجية الاقتلاع
ما يحدث في "علم الروم" ليس حدثاً معزولاً، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من الانتهاكات الممنهجة التي طالت المصريين من الوراق إلى العريش، ومن المرج إلى نزلة السمان. السيناريو واحد يتكرر بحذافيره: شيطنة الأهالي أو تجاهل حقوقهم، فرض طوق أمني، عرض تعويضات هزيلة لا تمكنهم من شراء بديل مماثل، ثم استخدام الجرافات لفرض الأمر الواقع.
ففي جزيرة الوراق، حاصرت الدولة مواطنيها لبيع الجزيرة لمستثمرين خليجيين. وفي العريش، هدمت المنازل وجرفت المزارع بدعاوى أمنية واهية لم تسفر إلا عن مزيد من الخراب دون تعويضات تذكر. وفي توسعات "الدائري"، أُلقي بآلاف الأسر في الشارع مقابل ملاليم لا تكفي لاستئجار شقة في المناطق العشوائية.
وأخيرا فإن بيع منطقة "سملا علم الروم" التي تبلغ مساحتها 4900 فدان لشركة الديار القطرية، والاحتفاء الرسمي بذلك كإنجاز، هو في حقيقته "بيع للسيادة" وتفريط في حقوق المواطن الأصلي. إن استمرار حكومة الانقلاب في سياسة "التهجير الاقتصادي" وتجاهل الغضب الشعبي المتصاعد ينذر بانفجار اجتماعي وشيك، حيث لم يعد لدى المواطن ما يخسره بعد أن نُزعت أرضه، وسُرق رزقه، ودُمر مستقبله بقرارات فوقية لا تراعي إلا خزائن السلطة ومصالح المستثمر الأجنبي.

