في الوقت الذي تُروّج فيه الأذرع الإعلامية لنظام الانقلاب في مصر لما يُسمى بـ"الانفراجة السياسية" وقرب حلحلة ملف المعتقلين، جاءت الوقائع على الأرض لتصفع الجميع بحقيقة مغايرة تماماً. فقد كشفت الأيام القليلة الماضية عن حملة مسعورة شنتها نيابة أمن الدولة العليا، بإحالة مئات المعتقلين السياسيين -بينهم نساء وأطفال- إلى "محكمة جنايات الإرهاب" سيئة السمعة. هذه الموجة الجديدة من الإحالات ليست مجرد إجراء قضائي، بل هي رسالة سياسية دموية تؤكد أن النظام الحالي لا يملك سوى لغة القمع، وأنه ماضٍ في تصفية خصومه السياسيين عبر تحويل "الحبس الاحتياطي" من إجراء احترازي إلى عقوبة مؤبدة، ومن ثم إلى أحكام انتقامية ناجزة، في استهتار كامل بالدستور والمواثيق الحقوقية.

 

"ميدان" القمع.. نساء وأطفال في قفص الاتهام

 

لم تفرق آلة البطش الأمنية بين ناشط سياسي أو سيدة أو حتى طفل. ففي الثالث من ديسمبر الحالي، أحالت نيابة أمن الدولة 108 متهمين في القضية الهزلية المعروفة بـ"ميدان" (رقم 3865 لسنة 2025) إلى الجنايات. القائمة ضمت سيدات مثل سها عمر سليمان وروضة صلاح الدين، بل وشملت الطفل خالد شريف جابر. التهم المعلبة الجاهزة كانت "تأسيس جماعة إرهابية وتمويلها"، أما الجريمة الحقيقية فهي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، يوتيوب، إكس) للتعبير عن الرأي والدعوة للتظاهر أو الامتناع عن سداد الضرائب، وهي ممارسات سلمية كفلها القانون، لكنها في عرف الانقلاب تحولت إلى "أعمال عدائية ضد مؤسسات الدولة" و"إضرار بالنظام المالي". إن الزج بالأطفال والنساء في أتون محاكمات الإرهاب يكشف عن نظام مأزوم يخشى حتى الكلمات المكتوبة على صفحات الإنترنت.

 

تدوير القمع.. استهداف المعارضين في الداخل والخارج

 

لم تكتفِ السلطات بالتنكيل بمن هم في قبضتها، بل وسعت دائرة الانتقام لتشمل المعارضين في الخارج، في محاولة يائسة لإسكات كل صوت حر. ففي 29 نوفمبر، أحيل 50 مواطناً، بينهم الناشط أنس حبيب والمعارضون إسلام لطفي وعبد الرحمن فارس، إلى الجنايات في القضية (1282 لسنة 2024). كما طالت الإحالات المحامية بالنقض فاطمة الزهراء غريب. وفي مشهد يعكس السعار الأمني، تم الزج بالصحفي ياسر أبو العلا وزوجته نجلاء فتحي في القضية (1568 لسنة 2024)، إلى جانب أربع سيدات أخريات، بتهم الانضمام لجماعة محظورة. هذه الإحالات الجماعية تؤكد أن النظام يتعامل مع النشاط السياسي والصحفي والحقوقي باعتباره "إرهاباً"، ويسعى عبر هذه المحاكمات الصورية إلى إغلاق المجال العام بالضبة والمفتاح.

 

مقبرة الأحياء.. 7 سنوات من التنكيل بـ هدى وعائشة

 

وفي سابقة تكشف عن الوجه القبيح لمنظومة العدالة في مصر، قررت محكمة الجنايات أخيراً تحديد جلسة محاكمة للمحامية الحقوقية هدى عبد المنعم وعائشة خيرت الشاطر في التاسع من ديسمبر الحالي، بعد مرور نحو 7 سنوات كاملة من الحبس الاحتياطي التعسفي على ذمة القضية (800 لسنة 2019). سبع سنوات من سرقة الأعمار دون محاكمة، ليتم تقديمهن الآن إلى "دائرة إرهاب" لإضفاء طابع قانوني زائف على جريمة اختطافهن الطويلة. إن هذا الإجراء ينسف أي حديث عن "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" أو تعديلات قانون الحبس الاحتياطي، ويثبت أن القانون في مصر أصبح مجرد أداة لتشريع القمع وإطالة أمد الاعتقال.

 

إرادة سياسية لغلق الأبواب.. القضاء في خدمة الأمن

 

يصف الحقوقي خلف بيومي، مدير مركز الشهاب، ما يحدث بـ"المفاجأة غير المسبوقة"، مشيراً إلى أن عدد القضايا المحالة لجنايات الإرهاب تجاوز الـ 500 قضية في وقت قياسي. هذا التوسع المخيف في الإحالات يقطع الشك باليقين بأن هناك "إرادة سياسية" عليا لنسف ملف المعتقلين بدلاً من حله، عبر تحويلهم من محبوسين احتياطياً إلى محكومين بأحكام قاسية تستند حصراً إلى تحريات الأمن الوطني المشبوهة. إن النظام الانقلابي، عبر هذه الإجراءات، يرسل رسالة واضحة للداخل والخارج: لا مصالحة، لا انفراجة، ولا تراجع عن السياسات القمعية، وأن السجون ستبقى هي المستقر الوحيد لكل من يجرؤ على الحلم بوطن حر.