في مشهد يكشف طبيعة حكم الانقلاب في مصر، اقتحمت قوات الأمن موقع شركة «مودرن غاز» في محافظة قنا واعتقلت أكثر من عشرة عمال لم يرتكبوا جريمة سوى أنهم طالبوا بعقود تثبيت، وتطبيق الحد الأدنى للأجور، وتأمين اجتماعي يحفظ حقوقهم الأساسية. العمال الذين لا يتجاوز راتب أغلبهم أربعة إلى خمسة آلاف جنيه شهريًا وجدوا أنفسهم من مقر العمل إلى سيارات الشرطة، لأنهم تجرؤوا على رفع صوتهم في وجه منظومة تنهبهم منذ سنوات عبر عقود مقاولين من الباطن.

 

اعتقال بدل الحوار

 

بدلًا من حضور مسؤول من وزارة البترول أو ممثل عن الشركة للتفاوض مع العمال والاستماع لمطالبهم المشروعة، استُدعيت قوات الأمن لفض الوقفة واعتقال عدد من المشاركين فيها، في رسالة واضحة أن الدولة لا تعترف إلا بلغة العصا مع كل من يحاول الدفاع عن لقمة عيشه. هذه السياسة ليست حادثًا عابرًا، بل امتداد لنهج ترهيب العمال وكل فئات المجتمع منذ انقلاب السيسي، حيث يتم تجريم أي حراك مطلبي بوصفه «تهديدًا للأمن» بينما الفساد الحقيقي يختبئ في المكاتب المكيفة والقصور الرئاسية.

 

عمالة مقاول بلا أمان

 

القضية في قنا ليست فقط اعتقال عمال، بل منظومة استغلال كاملة اسمها «عقود الباطن» التي تستخدمها شركات البترول، ومنها «مودرن غاز»، للهروب من التزاماتها تجاه آلاف العمال. حسب شكاوى العاملين، يعمل كثيرون منهم منذ قرابة عشر سنوات عبر شركة مقاول وسيطة، تُجدد عقودهم سنويًا، وتقتطع من رواتبهم مبالغ ثابتة تصل إلى أكثر من ألف جنيه شهريًا مقابل لا شيء سوى استمرار استغلالهم لصالح الشركة الأم.

 

هذا النظام يحرم العمال من أبسط حقوقهم في الأمان الوظيفي والتأمينات والبدلات، ويجعل فصلهم أو استبدالهم مسألة توقيع على ورقة من المقاول، بينما تستفيد وزارة البترول وشركاتها من قوة عمل رخيصة يمكن التخلص منها في أي لحظة دون مسؤولية حقيقية.

 

تضامن يتسع رغم القمع

 

اعتقال عمال قنا جاء بعد سلسلة احتجاجات بدأت داخل فرع الشركة بالمحافظة، وتزامنت معها إضرابات في فرع «مودرن غاز» بسوهاج، حيث أعلن العمال هناك توقفهم عن العمل تضامنًا مع زملائهم وللمطالبة بالعقود المباشرة نفسها وإلغاء نظام المقاول. تقارير حقوقية وعمالية أكدت أن تحركات قنا وسوهاج ليست معزولة، بل جزء من موجة جديدة من الاحتجاجات العمالية في أكثر من محافظة، في مواجهة سياسات تجويع وخصخصة مقنعة تضرب ما تبقى من الطبقة العاملة المصرية.

 

هذا التضامن أفزع السلطة التي تخشى امتداد شرارة الإضرابات إلى قطاعات أخرى، فاختارت الحل الأمني السريع باعتقال قادة الاحتجاج في قنا، أملاً في كسر الحركة في مهدها ومنع انتقال عدواها لبقية عمال البترول.

 

دولة السيسي ضد من يطالب بحقه

 

نظام السيسي يقدّم نفسه كـ«حارس للاستثمار» و«حامٍ للاستقرار»، لكنه في الواقع حارس لمصالح رجال الأعمال وشبكات المقاولين على حساب العمال. الدولة التي تدّعي تطبيق الحد الأدنى للأجور تسمح لوزارة البترول بأن تدفع لعمالها غير المثبتين رواتب تقل فعليًا عن هذا الحد بعد الاستقطاعات، ثم ترسل الشرطة لاعتقال من يجرؤ على المطالبة بتطبيق القواعد الرسمية نفسها.

 

القمع الأمني يجعل من كل مصنع أو شركة ثكنة عسكرية، ويحوّل القانون من أداة لحماية العامل إلى سلاح لمعاقبته، بينما يظل أصحاب الشركات والمقاولون الذين ينهبون أجور الناس بعيدين عن أي مساءلة. هكذا تتجلى حقيقة «الجمهورية الجديدة» التي بشّر بها الانقلاب: جمهورية تقمع من يطلب عقدًا ثابتًا، وتفتح ذراعيها لمن يبرم صفقات المليارات مع السلطة.

 

رسالة من قنا إلى عمال مصر

 

اعتقال عمال «مودرن غاز» ليس النهاية، بل بداية فصل جديد في صراع طويل بين سلطة ترى في أي تنظيم عمالي خطرًا مباشرًا على بقائها، وطبقة عاملة لم يعد لديها ما تخسره سوى فتات رواتبها. الرسالة التي يبعثها عمال قنا وسوهاج لكل عمال مصر واضحة: الحقوق لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الصمت على عقود الباطن والتجويع لم يعد خيارًا بعد اليوم.

 

في مواجهة حكومة انقلاب لا تعرف إلا القمع، يصبح توثيق هذه الانتهاكات ونشرها والتضامن الواسع معها واجبًا وطنيًا، حتى لا يظل كل عامل معتقلًا وحده في مواجهة منظومة كاملة من الاستغلال. ما حدث في «مودرن غاز» جرس إنذار جديد بأن معركة الخبز والكرامة لن تُحسم في مكاتب الوزراء، بل في الشوارع وأماكن العمل، حيث يصر العمال على ترديد هتافهم البسيط: نريد عقودًا ثابتة، وأجورًا عادلة، ودولة تقف مع العامل لا ضده.