في مشهد يكشف عمق الفشل الذي ضرب العملية الانتخابية في مصر، انهارت واجهة "الديمقراطية" التي حاول نظام الانقلاب تلميعها، بعدما اضطرت المحكمة الإدارية العليا لإصدار أحكام ببطلان نتائج 29 دائرة انتخابية جديدة في المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب 2025، لتنضم إلى 19 دائرة أخرى سبق للهيئة الوطنية للانتخابات إلغاء نتائجها. هذا يعني أن 48 دائرة من أصل 70 دائرة فقط شهدتها المرحلة الأولى باتت نتائجها ملغاة بالكامل، أي أن نحو 69% من الدوائر سقطت قضائياً قبل أن يرى البرلمان النور، في فضيحة غير مسبوقة تُسجّل في تاريخ الانقلاب العسكري.

 

منظومة الفشل: من صنع الدوائر حتى التزوير في اللجان

 

الحديث عن "رقابة قضائية مستقلة" يصبح مجرد مزحة ثقيلة عندما ندرك أن القضاء الذي أصدر أحكام البطلان هو نفسه جزء من المنظومة التي صممت وأشرفت على تلك الانتخابات منذ البداية. المحكمة الإدارية العليا لم تكتشف عيباً فنياً عارضاً، بل وثّقت ما رصده 259 طاعناً من مرشحين خاسرين: منع مندوبي المرشحين من حضور الفرز، التلاعب في أرقام الحصر بين اللجان الفرعية والعامة، عدم تسليم نسخ محاضر الفرز، دعاية انتخابية داخل اللجان. كل ذلك حدث تحت أعين "الهيئة الوطنية للانتخابات" التي يرأسها القاضي حازم بدوي، والتي كان من المفترض أن تضمن نزاهة العملية من البداية.

 

الأسوأ من التزوير نفسه هو الصمت المبدئي للهيئة، التي اعترفت متأخرة بإلغاء 19 دائرة فقط، قبل أن تجبرها موجة الطعون الضخمة على الاعتراف بكارثة أوسع. هذا يعني أن الهيئة كانت على علم بالخروقات لكنها فضّلت التستر عليها حتى انفجر الأمر في وجهها أمام المحاكم، في دليل قاطع على أنها ليست "مستقلة" كما تدّعي، بل أداة في يد النظام لإضفاء شرعية زائفة على مسرحية انتخابية مكتوبة سلفاً.

 

خريطة الانهيار: أربع محافظات بالكامل وخمس شبه منهارة

 

لم يكن البطلان عشوائياً أو محدوداً، بل امتد ليشمل أربع محافظات بالكامل في الصعيد: أسيوط، سوهاج، قنا، والأقصر، حيث ألغيت كل الدوائر دون استثناء. وفي المنيا، سقطت جميع الدوائر إلا واحدة فقط، بينما في الجيزة —عاصمة مصر الإدارية— تهاوت دوائر الهرم، بولاق الدكرور، 6 أكتوبر، البدرشين، العمرانية، ومنشأة القناطر. وفي البحيرة والفيوم والوادي الجديد وأسوان والإسكندرية، كان المشهد متشابهاً: إلغاءات واسعة وطعون بالجملة.

 

هذه الخريطة الجغرافية للانهيار تكشف أن المشكلة ليست "أخطاء فردية" أو "تجاوزات محدودة"، بل خلل بنيوي في كل مراحل العملية الانتخابية، من تقسيم الدوائر وترشيح الأسماء وحتى الفرز والإعلان. النظام الذي يسيطر على كل شيء في مصر، من الإعلام إلى القضاء إلى الأجهزة الأمنية، عجز عن تنظيم انتخابات "نظيفة الشكل" حتى لو كانت مفرغة من المضمون، وهو ما يعكس درجة التدهور المؤسسي الذي وصل إليه حكم الانقلاب.

 

شرعية منهارة: برلمان لا يملك نصاباً دستورياً

 

بعيداً عن الخطاب الفضفاض حول "إرادة الشعب"، تطرح أحكام البطلان سؤالاً دستورياً صريحاً: كيف يُحسب فوز "القائمة الوطنية" —التي تضم 12 حزباً موالياً للسيسي وفازت بكل مقاعد القوائم المغلقة البالغة 284 مقعداً— إذا كانت النتائج ملغاة في 48 دائرة من أصل 70؟. الدستور يشترط حصول القائمة على 5% من إجمالي المقيدين بقاعدة بيانات الناخبين في كل دائرة، لكن كيف يُحتسب هذا الرقم في دوائر ألغيت نتائجها بالكامل؟.

 

رئيس حزب الجيل الديمقراطي ناجي الشهابي —وهو جزء من المعارضة الشكلية المسموح بها— قال صراحة إن احتساب أصوات القائمة في الدوائر الملغاة "لا يجوز قانوناً"، وإن "هذا الوضع خلق انعداماً دستورياً يجعل البرلمان المقبل فاقداً للشرعية منذ اللحظة الأولى". هذا الكلام ليس من "معارضة راديكالية" بل من داخل دائرة النظام نفسه، ما يعني أن حتى الموالين باتوا يدركون أن المسرحية فشلت.

 

من يتحمل المسؤولية؟ السيسي وحده

 

كل الطرق تقود إلى قصر الاتحادية. السيسي الذي يسيطر على كل مفاصل الدولة منذ انقلاب 2013، ويعيّن رؤساء الهيئات القضائية والرقابية، ويحدد من يترشح ومن يُستبعد، ويملك حق حل البرلمان وإصدار القوانين بمفرده، هو المسؤول الأول والأخير عن هذه الفضيحة. الحديث عن "هيئة وطنية مستقلة" أو "قضاء نزيه" يصبح مجرد ديكور إعلامي عندما ندرك أن كل هذه المؤسسات تعمل ضمن منظومة واحدة هدفها الوحيد هو إعادة إنتاج السلطة، لا تمثيل المواطنين.

 

البرلمان الذي كان من المفترض أن ينعقد قريباً، بات مهدداً بالبطلان الكامل، أو على الأقل بشرعية مهزوزة منذ اليوم الأول، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة: إعادة الانتخابات من الصفر بقانون جديد، أو المضي قدماً في تشكيل برلمان "شكلي" يفتقد أي قاعدة شعبية أو دستورية، أو حتى حل المجلس الحالي وتأجيل الانتخابات لأجل غير مسمى تحت ذرائع "الإصلاح القانوني". كل الخيارات سيئة، وكلها تصب في خانة واحدة: فشل النظام الانقلابي في إنتاج أي شكل من أشكال التمثيل السياسي الحقيقي، حتى لو كان شكلياً.