في ختام “أسبوع القاهرة الثامن للمياه”، خرج رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي بتصريحات رنانة جديدة حول “الأمن المائي” و”حقوق مصر التاريخية في النيل”، مؤكدًا أن مصر والسودان لا يصل إليهما سوى 5% من موارد نهر النيل، وأن “الأمن المائي ليس مجالًا للمساومة أو التجريب السياسي”. كلمات مألوفة ومكررة في مشهد حكومي غارق في العجز والتناقض، إذ لا تتجاوز تصريحات المسؤولين حدود الميكروفونات والمنصات، بينما الواقع يشهد تراجعًا خطيرًا في نصيب المواطن المصري من المياه، وتآكلًا متسارعًا في قدرات الدولة على إدارة الملف الأخطر في تاريخها الحديث.
كلام متكرر بلا اي رد فعل
منذ سنوات، تعود المصريون على سماع وعود وتصريحات “نارية” من حكومة مدبولي بشأن ملف سد النهضة، وضرورة الحفاظ على “حقوق مصر المائية التاريخية”، لكن ما يحدث فعليًا هو العكس تمامًا. فالمفاوضات مع إثيوبيا تحولت إلى مسرحية عبثية بلا نهاية، تتجمد حينًا وتُستأنف حينًا آخر، بينما تواصل أديس أبابا استكمال مشروعها وملء السد للمرة الخامسة دون اكتراث بأي اعتراض مصري أو سوداني.
في المقابل، لم تقدم حكومة مدبولي سوى بيانات جوفاء لا تغير شيئًا في الواقع. حتى وزارة الري، التي كان يُنتظر منها اتخاذ خطوات فنية جادة، تحولت إلى واجهة إعلامية تكتفي بعرض الصور والزيارات الميدانية والمشروعات الورقية، دون أن تقدم حلولًا عملية لأزمة تهدد الأمن القومي ذاته.
منصة للمجاملات الدولية
أسبوع القاهرة للمياه، الذي تحرص الحكومة على تنظيمه سنويًا بتكلفة باهظة، تحول إلى مناسبة بروتوكولية لتبادل المجاملات والتقاط الصور، أكثر منه منتدى للحلول أو السياسات الجادة.
تستضيف مصر وفودًا أجنبية وتلقي كلمات مطولة عن “الاستدامة” و”التعاون الإقليمي”، بينما على الأرض، يجف الترع وتنهار شبكات الري القديمة، وتُهدر مليارات الأمتار المكعبة من المياه في مشروعات غير مدروسة.
ولعل المفارقة أن مدبولي يتحدث عن “الأمن المائي” في وقت تفشل فيه حكومته في إدارة أبسط ملفات المياه داخل البلاد، من انقطاعات المياه في القرى، إلى تلوث المجاري المائية التي تهدد صحة المصريين يوميًا.
أرقام تكشف الفشل
تراجع نصيب الفرد من المياه في مصر إلى ما دون 550 مترًا مكعبًا سنويًا، أي أقل بكثير من خط الفقر المائي الذي حددته الأمم المتحدة عند ألف متر مكعب.
وفي المقابل، تتحدث الحكومة عن “مشروعات قومية” لتحلية المياه ومعالجة الصرف الصحي، لكنها لا تشكل سوى حلول مؤقتة لا تغطي سوى أقل من 10% من الاحتياجات الفعلية.
بينما تستمر الزراعة في استنزاف أكثر من 80% من الموارد المائية دون تحديث حقيقي في نظم الري أو خطط ترشيد فعالة، وسط غياب كامل للشفافية في إدارة هذا الملف.
فشل في الدبلوماسية والميدان
منذ بدء أزمة سد النهضة، ارتكز أداء النظام على المفاوضات الشكلية والوساطات الخارجية دون أي استراتيجية ضغط حقيقية.
لم تمارس القاهرة أدواتها السياسية أو الاقتصادية أو حتى القانونية بشكل فعال، رغم خرق إثيوبيا الواضح لاتفاق إعلان المبادئ لعام 2015.
وبينما يتحدث مدبولي عن “عدم المساومة في الأمن المائي”، تواصل حكومته التراجع أمام سياسة الأمر الواقع التي تفرضها أديس أبابا عامًا بعد عام، حتى فقدت مصر مكانتها الإقليمية كقوة نيلية قادرة على الدفاع عن مصالحها.
شعارات بلا مضمون
حكومة مدبولي ترفع شعارات كبرى من نوع “كل نقطة مياه تساوي حياة”، لكنها في الواقع عاجزة عن إدارة تلك النقاط.
المواطن المصري البسيط يدفع ثمن هذا الفشل يوميًا في شكل ارتفاع أسعار المياه، وتدهور خدمات الري، وغياب أي رؤية واضحة لمستقبل الموارد المائية.
أما مدبولي وحكومته فيواصلون إطلاق التصريحات التي لا يسمعها أحد، ولا تُترجم إلى قرارات أو تحركات حقيقية، حتى أصبحت مصر نموذجًا لحكومة تتحدث كثيرًا وتفعل قليلًا.
وفي نهاية أسبوع القاهرة للمياه، يمكن القول إن حكومة مدبولي لم تضف شيئًا جديدًا سوى تكرار ما قيل في الأعوام السابقة.
فالأمن المائي، الذي وصفه بأنه “خط أحمر”، تحوّل في ظل سياساته إلى خطٍ باهتٍ لا يراه أحد.
ومع استمرار غياب الإرادة السياسية، وتراجع الدور المصري في إفريقيا، يظل نهر النيل شاهدًا على مأساة بلدٍ يحكمه من لا يملك سوى الكلام.