قرار وزارة الأوقاف رفع إيجار فدان الأرض الزراعية من 15 ألف جنيه إلى 45 ألفًا في عام واحد، بعد أن كان في 2014 لا يتجاوز 400 جنيه فقط، ليس مجرد تعديل “سعري” في عقد إيجار، بل إعلان حرب مفتوحة على ما تبقّى من رئة الريف المصري. الفدان الذي كان يمثل مصدر رزق أسرة كاملة، أصبح اليوم عبئًا ماليًا يستحيل تحمله، في ظل انهيار القدرة الشرائية، وارتفاع تكاليف الزراعة، وثبات أسعار المحاصيل عند مستويات لا تكفي أصلاً لتغطية التكاليف الأساسية. هنا لا نتحدث عن “تحديث لقيمة الإيجار” بل عن محاولة طرد منهجية للفلاح من أرض عاش فيها وعليها عقودًا، لصالح دولة لا ترى في الأرض إلا بندًا في دفتر تحصيل.

 

الفلاحون المتضررون يصفون بدقة طبيعة هذه المأساة: هذه الأراضي ليست ملكًا خاصًا لهيئة الأوقاف استلمتها جاهزة، بل مساحات “ميتة” جرى استصلاحها على مدار سنوات طويلة بعرق الفلاحين وديونهم وجهدهم. كثير من هؤلاء يستأجرون الأرض منذ عقود في إطار حق انتفاع متوارث عن الآباء والأجداد؛ هم من حوّلوا الرمل إلى تربة منتجة، وحافظوا على خصوبتها، وحموا حيازاتها من التفتيت والانهيار. اليوم، تأتي “هيئة الأوقاف” – التي يُفترض شرعًا أن تدير أموال الوقف لصالح المجتمع – لتتعامل مع هؤلاء بوصفهم عبئًا يجب التخلص منه، لا شريكًا في الثروة.

 

القفزة من 400 إلى 15 ألف ثم إلى 45 ألف جنيه في عقد ونصف تقريبًا تكشف أن المسألة ليست “تصحيح قيمة” ولا “مراعاة لسعر السوق”، بل منطق جباية خالص: كلما ضاقت ميزانية الدولة، تُقلب الدولة على الفئات الأضعف بحثًا عن موارد إضافية. بدل أن تلاحق الأجهزة الرقابية حيتان الفساد، وصفقات الأراضي بالمليارات، وسرقة المال العام في مشروعات فاشلة، تبحث السلطة عن الفلاح الغلبان لتنتزع منه آخر ما تبقى له: الفدان الذي يعيش منه ومنه فقط.

 

حين يقول الفلاح: “الأرض استصلحناها بعرقنا والنظام يريد طردنا منها”، فهو لا يبالغ؛ لأن أرقام الإيجار الجديدة تعني ببساطة أن معادلة الزراعة لم تعد مجدية اقتصاديًا. فلاح يستأجر فدانًا بـ45 ألفًا في السنة، في ظل أسعار أسمدة ومبيدات وبذور ونقل وعمالة نار، وأسعار بيع للمحاصيل غالبًا ما تُفرض عليه ولا يملك فيها قدرة تفاوض حقيقية، سيتحوّل إما إلى مديون مزمن أو إلى خاسر حتمي يترك الأرض للبوار أو يعيدها للأوقاف مجبرًا. هكذا يتحقق هدف غير معلن: تفريغ الفلاح من أرضه دون قرار مصادرة مباشر، عبر أداة بسيطة اسمها “السعر”. 

 

الخطير أن هذه السياسات تضرب في جوهر ما تبقّى من أمن غذائي في مصر. الفلاح الذي يزرع قمحًا وخضروات ومحاصيل أساسية تحت ضغط هذه الإيجارات غير المنطقية، إمّا سيقلّص المساحة المزروعة، أو يغيّر نوع المحصول بحثًا عن عائد أعلى سريع (غالبًا لمحاصيل تصديرية أو أقل احتياجًا للعمالة)، أو يترك الزراعة أصلًا ليبحث عن أي عمل آخر في المدن أو خارج البلاد. النتيجة المباشرة هي مزيد من الاعتماد على الاستيراد الغذائي، وارتفاع أسعار السلع، وتعميق تبعية البلد للأسواق العالمية وسعر الدولار، في وقت تعاني فيه العملة المحلية من انهيار متواصل.

 

من زاوية اجتماعية، ما يحدث هو جريمة ضد نسيج الريف نفسه. القرية التي تتماسك بحيازات صغيرة ومتوسطة، وبشبكة تضامن بين الفلاحين، تتحول تدريجيًا إلى مجتمع طارد: شباب يهاجرون للعمل في المدن أو الخارج، كبار سن غارقون في الديون، أسر مهددة بالطرد من منازلها وحيازاتها بسبب العجز عن سداد الإيجار أو الغرامات. هذا بالضبط ما يقصده المراقبون حين يتحدثون عن “تفكيك مجتمعات الريف” وتجفيف مصادر رزقهم: الأرض ما عادت ملجأ، بل أصبحت أداة خنق.

 

ما يزيد من فجاجة المشهد أن القرار يصدر عن وزارة الأوقاف، لا شركة استثمار خاصة ولا صندوق سيادي. هذه الوزارة يفترض أن تكون مؤتمنة على أموال المسلمين وأراضي الوقف لصالح الفقراء والضعفاء والعمل الخيري، لكن الإدارة الحالية حولتها فعليًا إلى ذراع مالية من أذرع النظام، تجمع الإيجارات وتعظّم العوائد وتُسلِّم جزءًا منها للخزانة العامة، بلا أي اعتبار حقيقي لرسالة الوقف الأصلية أو لمفهوم “المصلحة العامة” الذي يجب أن يحكم التصرف في هذه الأصول. هكذا يتحول الوقف – الذي كان تاريخيًا صمام أمان اجتماعي – إلى أداة جديدة لدهس الفقراء.

 

الخطاب الرسمي عادة ما يبرر هذه القرارات بمنطق “تحقيق العدالة بين المستأجرين”، و“تسعير الأرض بقيمتها الحقيقية”، و“منع تجميد أصول الوقف”. لكن العدالة لا تُختزل في مساواة شكلية بين فلاح صغير وتاجر أو مستثمر كبير؛ العدالة أن تُراعى قدرة الفلاح على الدفع، وأن يُربط الإيجار بهامش ربح معقول من المحصول، وأن تُقدَّم للفلاحين خدمات حقيقية في المقابل: مياه ري منتظمة، دعم للمدخلات، شراء عادل للمحصول. ما يحدث بالعكس تمامًا: مياه لا تصل لنهايات الترع، وأسعار سماد مشتعلة، وسوق عشوائية للمحاصيل يربح فيها السمسار، ثم يقال للفلاح: “ادفع إيجار 45 ألفًا وإلا اترك الأرض”.

 

الأخطر أن هذه الزيادات تُفرض عادة دون حوار حقيقي مع ممثلي الفلاحين أو جمعياتهم، ودون دراسات شفافة تُنشر للرأي العام تبرر هذه الأرقام. الفلاح يبلّغه موظف الأوقاف أو المحامي بأن الإيجار أصبح كذا، وأن من لا يوقّع سيفقد حق الانتفاع، وربما يلاحَق قضائيًا. في ظل غياب نقابات فلاحين مستقلة، وبرلمان حقيقي يدافع عن مصالح الريف، وإعلام يتحدث باسم المزارعين لا باسم المعلنين، يجد الفلاح نفسه وحيدًا في مواجهة بيروقراطية قاسية لا تسمع إلا لغة “التحصيل”.

 

هذا النهج ليس حالة معزولة، بل يتسق مع سياسات أوسع للنظام في التعامل مع الفئات المنتجة: بدل مواجهة الفساد الهائل في قمة الهرم المالي والإداري، والاعتراف بفشل مشاريع استعراضية ابتلعت المليارات، يجري تحميل الفاتورة لشرائح لا تملك ترف الهروب: الفلاح الصغير، العامل، الموظف، صاحب المعاش. رفع أسعار الوقود، والكهرباء، والأسمدة، ومدخلات الإنتاج الزراعي، ثم رفع إيجارات الأراضي، كلها حلقات في سلسلة واحدة: الدولة تتنصل من مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية، وتتحول إلى جابي ضرائب وإيجارات ورسوم بلا سقف.

 

واخيرا فان معركة الفلاحين مع وزارة الأوقاف حول إيجار الفدان ليست قضية “عقد مدني” بين طرفين متساويين، بل صراع على بقاء الريف نفسه، وعلى حق المصري البسيط في أن يزرع أرضًا عاش فيها أجداده دون أن يُطرد منها بقرار إداري جائر. إذا استمر نهج رفع الإيجارات بهذه القفزات، فإن آلاف الأسر ستفقد أرضها، وسيتسارع نزيف الهجرة من الريف، وسترتفع أسعار الغذاء على الجميع، بينما تربح مؤسسات الدولة أرقامًا على الورق وتخسر البلد آخر ما بقي له من قاعدة إنتاج حقيقي. المطلوب اليوم ليس فقط التراجع عن هذه الزيادة، بل إعادة تعريف دور الأوقاف والدولة: من خصم يطارد الفلاح في حقله، إلى سند يحميه بوصفه خط الدفاع الأول عن أمن مصر الغذائي وكرامتها.