في الوقت الذي يطحن فيه الغلاء المواطن المصري، وتتقلص مساحة مائدة الفقراء يوماً بعد يوم، خرجت حكومة الانقلاب لتبشرنا بـ"إنجاز" جديد بالمفهوم العسكري المعكوس: تراجع واردات القمح بنحو 11.5% خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام المالي الجاري.

الحكومة تحاول تسويق هذا التراجع باعتباره نجاحاً لسياسات "التوطين" والاعتماد على الذات، بينما الحقيقة المرة التي تفضحها الأرقام والسياقات هي أننا أمام نظام "مفلس" يقتات على مخزونه الاستراتيجي، ويغامر بالأمن الغذائي لملايين المصريين، في ظل أزمة عملة طاحنة.

 

الأخطر من ذلك، هو التحول الدراماتيكي في إدارة ملف "العيش"، بنقل صلاحيات الاستيراد من الهيئات المدنية إلى جهاز "مستقبل مصر" السيادي، لتكتمل بذلك حلقة "عسكرة" بطون المصريين، وتحويل رغيف الخبز إلى ملف أمني بامتياز، بعيداً عن أي رقابة أو شفافية.

 

استنزاف المخزون الاستراتيجي: اللعب بالنار

 

تصريحات وزير التموين شريف فاروق ونائب رئيس غرفة الحبوب عبد الغفار السلاموني، التي عزت انخفاض الواردات إلى 2.3 مليون طن، إلى "الاعتماد على المخزون الاستراتيجي"، هي اعتراف كارثي لا يدعو للفخر. ففي أبجديات الأمن القومي، المخزون الاستراتيجي يُبنى للأزمات والحروب، لا لسد عجز الحكومة عن توفير الدولار اللازم للاستيراد.

 

النظام يقوم الآن بـ"أكل اللحم الحي" للدولة؛ فهو يسحب من الأرصدة الآمنة لتغطية فشله في توفير العملة الصعبة، مما يضع البلاد على حافة الهاوية في حال حدوث أي طارئ عالمي جديد. الحديث عن أن التوريد المحلي (3.93 مليون طن) سد الفجوة هو "تجميل" للواقع؛ فمصر تستهلك أضعاف هذا الرقم سنوياً، والاعتماد على تآكل المخزون هو سياسة "اليوم بيومه" التي يدير بها الانقلاب دولة بحجم مصر، وكأنها "كشك" سجائر.

 

"مستقبل مصر": عسكرة رغيف الخبز

 

التحول الأخطر الذي مررته السلطة في نوفمبر 2024، هو تولي جهاز "مستقبل مصر" (التابع لجهات سيادية) مسؤولية استيراد الحبوب بدلاً من هيئة السلع التموينية. هذا القرار الرئاسي يمثل المسمار الأخير في نعش "مدنية الدولة" في ملف الغذاء.

 

نحن أمام مشهد عبثي: الجهات التي يجب أن تحمي الحدود، باتت هي التي تشتري القمح وتبيعه! هذا النقل للصلاحيات يعني غياب الشفافية تماماً، وخروج ملف القمح من موازنات الدولة المراقبة (نظرياً) إلى "الصناديق السوداء" التي لا يجرؤ أحد على مراجعتها. النظام يرسل رسالة واضحة: "أكلكم وشربكم بإيدنا"، ليصبح رغيف العيش أداة ولاء وسيطرة، وليس حقاً مكفولاً تديره مؤسسات الدولة المختصة.

 

وزارة الزراعة: أرقام "على الورق" وفشل متكرر

 

في محاولة للتغطية على الفشل، خرج وزير الزراعة علاء فاروق ليعلن عن زراعة 3.5 مليون فدان قمح هذا العام، متوقعاً إنتاجية تصل لـ 5 ملايين طن. لكن الذاكرة المصرية لم تصدأ بعد؛ فهذه الوزارة نفسها هي التي "فشلت" العام الماضي في تحقيق نفس المستهدف، واكتفت بـ 3.28 مليون فدان، باعتراف مساعد الوزير أحمد عضام.

 

ما الذي تغير هذا العام؟ لا شيء سوى الحاجة لـ"شو إعلامي" يرضي رأس النظام. وعود الوزارة تظل "حبراً على ورق" ما لم يلمسها المواطن في وفرة المعروض وانخفاض الأسعار، وهو ما يكذبه الواقع يومياً. الأرقام في عهد السيسي فقدت مصداقيتها، وباتت تُطبخ في الغرف المغلقة لتصدير الوهم، بينما الأرض الواقعية تشهد معاناة الفلاحين من نقص الأسمدة وارتفاع تكاليف الإنتاج التي تلتهم أي زيادة في سعر التوريد.

 

الفلاح المصري: وقود في ماكينة النظام

 

الحديث عن رفع سعر التوريد إلى 2200 جنيه للأردب (بزيادة 200 جنيه) يتم تسويقه كـ"مكرمة" من النظام للفلاح. لكن الحقيقة أن هذه الزيادة لا تكاد تغطي تضخم أسعار المستلزمات الزراعية والوقود والعمالة. الحكومة تشتري القمح من الفلاح بالجنيه المصري (المتآكل)، لتوفر الدولار الذي كانت ستدفعه للمستورد، فهي الرابح الوحيد، بينما الفلاح يظل محاصراً بين مطرقة التكاليف وسندان السعر الإجباري. النظام يتعامل مع المزارع كـ"أجير" في مزرعة الدولة، يزرع ما يؤمر به، ويورد بالسعر الذي يحدد له، لتمتلئ صوامع "مستقبل مصر" ويخرج المسؤولون ليعلنوا عن انتصارات وهمية.

 

أمن غذائي على المحك

 

انخفاض واردات القمح ليس دليلاً على العافية، بل هو عرض لمرض "الإفلاس" الذي يعاني منه النظام. الاعتماد على المخزون، وعسكرة الاستيراد، والتلاعب بالأرقام، هي وصفة لكارثة غذائية محققة. حكومة الانقلاب لا تبني أمناً غذائياً، بل تدير "ندرة"، وتؤجل الانفجار القادم عبر حلول ترقيعية يدفع ثمنها المواطن من أمنه وقوته اليومي. رغيف الخبز الذي كان خطاً أحمر، أصبح اليوم رهينة في يد "جنرالات البيزنس"، ومقامرة جديدة في كازينو الفشل الحكومي.