بينما يرزح المواطن المصري تحت وطأة قرارات رفع الأسعار المتتالية، أطلقت حكومة الانقلاب برئاسة عبد الفتاح السيسي رصاصة جديدة على جسد الاقتصاد المنهك برفع أسعار الوقود، لتشعل أزمة أوسع في قطاع الدواء، أحد أكثر القطاعات حساسية وأهمية لحياة الناس. القرار لم يمرّ مرور الكرام، إذ دفع شركات الأدوية إلى المطالبة برفع أسعار منتجاتها بنسبة 30%، محذّرة من توقف خطوط إنتاج أساسية إذا لم تستجب الحكومة، ما يعني تفجر أزمة دوائية جديدة تضاف إلى سجل الإخفاقات الطويل لنظام السيسي في إدارة الملفات المعيشية.
في بلد يعاني فيه ملايين المصريين من الفقر وسوء التغذية، أصبحت الدواء رفاهية، والمرضى أسرى لسياسات عشوائية تتجاهل حقوقهم في العلاج والكرامة.
ارتفاع تكاليف الإنتاج... والضحية المواطن
تؤكد شركات الأدوية أن قرارات حكومة الانقلاب المتتالية برفع أسعار الوقود والكهرباء والغاز، إلى جانب رفع سعر الدولار الجمركي إلى 50 جنيهًا، أدت إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج بصورة غير مسبوقة.
وأوضح الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية، أن تصنيع علبة الدواء يمر بمراحل معقدة تبدأ من استيراد المواد الخام بالدولار، مرورًا بالتصنيع المحلي الذي يعتمد على الكهرباء والمياه والصيانة والعمالة، وكلها تكاليف تضاعفت مؤخرًا.
وأضاف أن الحكومة فرضت حدًا أدنى للأجور قدره 7 آلاف جنيه دون أن توفر دعمًا حقيقيًا للمصانع، ما زاد من أعباء التشغيل، في وقت تتجاهل فيه الدولة دعم الصناعة الوطنية، تاركة الشركات تواجه مصيرها وحدها أمام دوامة الغلاء والتقلبات الاقتصادية.
هيئة الدواء... عبء إضافي لا دعم
اتهم عوف هيئة الدواء المصرية بزيادة أوجاع القطاع، إذ رفعت رسوم تسجيل الدواء من مليون إلى خمسة ملايين جنيه للمنتج الواحد، بنسبة تجاوزت 1000%. هذه الرسوم، التي يُفترض أن تذهب لتطوير القطاع، تحولت إلى عبء خانق على الشركات والمستهلكين، فيما تساءل رئيس الشعبة عن كيفية استخدام هذه الأموال، وهل تُصرف كحوافز للعاملين من جيوب المرضى؟
وطالب عوف هيئة الدواء بأن تتحمل جزءًا من المسئولية وتخفض رسومها إلى تكلفة الخدمة الفعلية، بدلًا من تحقيق أرباح على حساب المريض الذي أصبح عاجزًا عن شراء العلاج.
نقص الأدوية الحيوية... المرضى بين الموت والسوق السوداء
نتيجة هذا الفشل المتراكم، تفاقمت أزمة نقص الأدوية الحيوية، خاصة أدوية الفشل الكلوي مثل “إيبركس” و“ابيوتين”، اللتين تعتبران ضرورية للحفاظ على حياة المرضى.
يقول عوف إن غياب هذه الأدوية أدى إلى انخفاض حاد في كريات الدم الحمراء، ما تسبب في فقر دم شديد وضعف عام ومضاعفات قلبية خطيرة، مشيرًا إلى أن المريض أصبح مضطرًا للجوء إلى السوق السوداء حيث تُباع الأدوية بأسعار خيالية تصل إلى ألف جنيه للعبوة الواحدة.
وتتحمل هيئة الدواء والحكومة، بحسب عوف، المسئولية الكاملة عن هذا الوضع المأساوي، نتيجة تجاهلها التحذيرات المتكررة من نقص الإمدادات وتأخر الإفراج الجمركي عن الشحنات الحيوية.
سوء التخطيط الحكومي... وموت الصناعة الوطنية
يرى خبراء القطاع أن ما يجري في سوق الدواء هو انعكاس مباشر لـ فشل الحكومة في التخطيط والإدارة، حيث تتراكم الأزمات من ارتفاع الأسعار إلى ضعف الإنتاج المحلي وغياب البدائل الوطنية.
ويحذر الصناعيون من أن استمرار تجاهل الدولة للمطالب العاجلة بدعم الصناعة الوطنية سيؤدي إلى خسارة صناعة الدواء المصرية بالكامل، ما سيجبر البلاد على الاستيراد من الخارج بالعملة الصعبة، في وقت يعاني فيه الاقتصاد من أزمة سيولة خانقة.
حق المريض في الدواء... بين الإهمال والمماطلة
اختتم عوف تصريحاته بالتأكيد على أن أزمة الدواء في مصر لم تعد أزمة أسعار أو إجراءات، بل أزمة حياة تمس حق المريض في العلاج والكرامة الإنسانية، مشددًا على أن كل يوم تأخير في حلها يعني معاناة جديدة لآلاف الأسر التي تعيش بين الخوف والألم.
إن ما يجري اليوم هو نتاج مباشر لسياسات العسكر التي حولت ملف الصحة إلى ساحة للربح والمكاسب، بدلًا من كونه خدمة إنسانية. ومع غياب الشفافية والمساءلة، تتحول أزمة الدواء إلى جريمة دولة بحق مواطنيها، حيث يدفع المرضى الثمن من دمائهم، فيما تتفرج الحكومة على المشهد بلا خجل.
الخلاصة أن أزمة الدواء في مصر ليست قدرًا محتومًا، بل نتيجة طبيعية لـ سوء إدارة نظام السيسي الذي أغرق الاقتصاد في الأزمات، وأفقد المواطن الثقة في أن الدولة قادرة على حمايته أو علاجه. في زمن الانقلاب، أصبح الدواء مثل الخبز والوقود، سلعة نادرة لا تُنال إلا بثمنٍ باهظ، في مشهد يختصر مأساة وطن يئن تحت حكم فشل في كل اختبار.