يشهد قطاع القطن المصري، أحد أعرق القطاعات الزراعية في تاريخ البلاد، تراجعًا غير مسبوق في الإنتاج خلال الموسم الحالي، وسط أزمات متراكمة في منظومة التسويق وتذبذب الأسعار دفعت المزارعين إلى العزوف عن زراعته، في مؤشر خطير على مستقبل "الذهب الأبيض" الذي طالما كان فخر الزراعة المصرية لعقود.
إنتاج في أدنى مستوياته منذ عقود
بحسب بيانات وزارة الزراعة، قُدّر إنتاج القطن خلال الموسم الحالي بنحو 59.5 ألف طن فقط، مقارنة بـ 91 ألف طن في الموسم الماضي، ما يمثل انخفاضًا بنسبة 34.6%، ليُسجل ثاني أدنى مستوى إنتاجي في تاريخ البلاد الحديث.
ويرجع هذا الانخفاض الحاد – وفق خبراء الزراعة – إلى أزمة التسويق التي شهدها الموسم الماضي، حيث تأخر انطلاق المزادات الرسمية لشراء القطن من المزارعين، ما تسبب في تكدّس المحصول وتراجع الأسعار بشكل حاد، الأمر الذي دفع كثيرًا من الفلاحين إلى التحول نحو محاصيل أكثر ربحية وأقل مخاطرة.
أسعار ضمان لم تُنقذ الموسم
في محاولة لتشجيع المزارعين، كان مجلس الوزراء قد حدد في فبراير 2024 أسعار ضمان تتراوح بين 10 و12 ألف جنيه للقنطار، وهي أسعار وُصفت بأنها تفوق الأسعار العالمية، إلا أن ارتفاع التكاليف وصعوبات التسويق جعلت هذه الخطوة غير كافية لإنقاذ الموسم.
كما قدمت الحكومة دعمًا إضافيًا قدره 2000 جنيه لكل قنطار من القطن، بهدف تخفيف خسائر المزارعين، غير أن القرار جاء بعد فوات الأوان، إذ كانت المساحات المزروعة قد تراجعت بشكل ملحوظ.
مفارقة: ارتفاع المعروض رغم التراجع
ورغم الانخفاض الكبير في الإنتاج، أظهرت بيانات وزارة الزراعة أن المعروض الكلي من القطن المصري ارتفع إلى 112.8 ألف طن هذا الموسم، بزيادة قدرها 14.7% عن الموسم السابق، نتيجة تراكم مخزون العام الماضي البالغ 53.3 ألف طن الذي لم يُسوّق بسبب أزمة المزادات وتأخر البيع.
هذا الوضع خلق تشبعًا في السوق المحلية، وأدى إلى ضغوط إضافية على الأسعار مع بداية الموسم الجديد.
سقوط الأسعار في أولى المزادات
في محافظة الفيوم، التي شهدت أولى مزادات الموسم في 24 سبتمبر الماضي، انخفضت الأسعار بنحو 30% مقارنة بالموسم السابق، حيث سجل متوسط السعر 7000 جنيه للقنطار فقط، بعد أن كان قد بلغ 10 آلاف جنيه العام الماضي، في مؤشر واضح على استمرار أزمة التسويق وتراجع الطلب المحلي والعالمي على القطن المصري.
الوجه البحري في ذروة الجني وسط مخاوف متزايدة
حتى الآن، لا تزال محافظات الوجه البحري – وعلى رأسها البحيرة وكفر الشيخ والدقهلية – في ذروة موسم الجني، وسط مخاوف من استمرار انهيار الأسعار، وهو ما قد يُفاقم عزوف المزارعين عن زراعة القطن في المواسم المقبلة.
خبراء: غياب استراتيجية متكاملة وراء التراجع
يرى خبراء الزراعة أن استمرار تراجع الإنتاج يعود إلى غياب استراتيجية واضحة لربط منظومة الزراعة بالتصنيع والتصدير، مؤكدين أن القطن المصري، رغم جودته العالمية، يفتقر إلى آلية تسويق فعالة تضمن استقرار الأسعار وحماية الفلاح.
ويحذر الخبراء من أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى خروج القطن من الدورة الزراعية في العديد من المحافظات، ما لم يتم تفعيل نظام عادل للمزادات وتوفير حوافز إنتاجية وتسويقية حقيقية تعيد الثقة للمزارعين.
“الذهب الأبيض” يفقد بريقه
يُعد القطن أحد أهم المحاصيل الاستراتيجية في مصر، وكان لعقود من الزمن رمزًا للجودة والتصدير، إلا أن السياسات الزراعية والتسويقية المتقلبة خلال السنوات الأخيرة جعلته رهينة تقلبات السوق وغياب التخطيط.
ومع تراجع الإنتاج وارتفاع المخزون وتدهور الأسعار، يقف القطاع اليوم أمام تحدٍ وجودي حقيقي: إما إعادة هيكلة شاملة لمنظومة القطن تشمل التسويق والتصنيع المحلي، أو مواصلة الانحدار نحو خروج القطن المصري من خريطة الزراعة العالمية.