في مشهد يلخص التناقض الصارخ بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي، أعلن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء عن “تقدم ملحوظ” في مشروع الربط الكهربائي بين مصر والسعودية، واصفًا المشروع بأنه الأكبر من نوعه في الشرق الأوسط. غير أن هذا الإعلان، الذي جاء وسط أزمة انقطاعات يومية للكهرباء يعيشها ملايين المواطنين، أثار موجة غضب وسخرية، إذ بدا كأنه احتفال حكومي بتصدير “النور” للخارج بينما يغرق الداخل في الظلام.
أعلن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء أن مشروع الربط الكهربائي بين مصر والسعودية، الذي يوصف بأنه الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، يواصل التقدم بخطى ثابتة.
وأوضح في بيان أنه من المقرر أن يبدأ تشغيل المشروع على مرحلتين بحلول أبريل 2026، مما يمثل نقلة نوعية في قطاع الطاقة بالمنطقة. يهدف هذا المشروع الاستراتيجي إلى تبادل طاقة كهربائية تصل إلى 3000 ميجاوات، بحجة اختلاف أوقات ذروة الاستهلاك بين البلدين.
ومنذ شهور، أصبحت حياة المصريين مرهونة بجداول "تخفيف الأحمال" التي قطعت التيار لساعات طويلة عن المنازل والمصانع والمستشفيات. ومع كل تبرير حكومي جديد، يتزايد الشعور بالعجز وفقدان الثقة. فالحكومة تتذرع بارتفاع درجات الحرارة ونقص الوقود، لكنها في الوقت نفسه تمضي في تنفيذ مشروعات تصدير الطاقة وكأنها دولة فائضة الإنتاج. يتساءل المواطن البسيط: كيف يمكن لدولة لا تستطيع إنارة بيوت أهلها أن تبني خطوط كهرباء تمتد إلى الخارج؟ وكيف تبرر السلطة بيع الطاقة بينما المواطن يتحمل فواتير مضاعفة ويعيش في عتمة قسرية؟
المفارقة هنا لا تتعلق بالكهرباء وحدها، بل تعكس أزمة أعمق في إدارة الموارد وتحديد الأولويات. فالنظام الحالي، الذي يأتي على رأسه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، يواصل نهجًا يعتمد على المشروعات الضخمة ذات الطابع الدعائي، التي تحقق مكاسب سياسية وإعلامية سريعة، دون أن تترك أثرًا ملموسًا على حياة المواطنين. مشاريع تُعرض في المؤتمرات الدولية وتُروّج كإنجازات استراتيجية، بينما البنية التحتية الداخلية تتآكل والخدمات الأساسية تتراجع.
من الناحية الاقتصادية، لا يخلو مشروع الربط الكهربائي من علامات استفهام حادة. فتكلفة إنتاج الكهرباء في مصر مرتفعة أصلًا، وتعتمد على وقود مستورد يرهق ميزانية الدولة. وبدلًا من توجيه الموارد الضخمة نحو تحديث محطات التوليد المتقادمة أو دعم مشروعات الطاقة المتجددة لتلبية احتياجات الداخل، اختارت الحكومة ضخ المليارات في مشروع يخدم طرفًا خارجيًا. النتيجة أن المواطن المصري لا يجني من هذه المشاريع سوى مزيد من التقنين والحرمان، في حين يُستخدم المشروع لتجميل صورة النظام أمام داعميه الإقليميين والدوليين.
يُضاف إلى ذلك أن الحكومة تقدم مشروع الربط الكهربائي كإنجاز "استراتيجي" يعزز مكانة مصر كمركز إقليمي للطاقة، بينما الواقع يقول إن الدولة عاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في أبسط احتياجاتها. هذه المفارقة تفضح خللاً في الرؤية الاقتصادية؛ فبدلًا من الاستثمار في الداخل، يذهب الجهد نحو تصدير صورة وردية للخارج. وكأن السلطة تخوض سباقًا لإقناع العالم بقدرتها على القيادة الإقليمية، حتى وإن كان ذلك على حساب احتياجات شعبها اليومية.
في عمق هذه الأزمة، تتجلى سياسة السيسي القائمة على إدارة الصورة لا إدارة الدولة. فبينما يُروّج لمصر كقوة صاعدة في مجال الطاقة، يعيش المواطن بين انقطاع متكرر للتيار وارتفاع لأسعار الفواتير والوقود. وحتى التبريرات الرسمية باتت مستهلكة، إذ لم يعد أحد يصدق أن الحر أو زيادة الأحمال هي السبب الوحيد للأزمة، بعد أن اتضح أن الكهرباء المقطوعة عن البيوت قد تجد طريقها قريبًا إلى الخارج.
إن ما يحدث لا يمكن اعتباره سوى استمرار لنهج يفضل "الاستعراض" على الحلول الواقعية. فالحكومة تتباهى بمد خطوط الربط الكهربائي مع السعودية والأردن والسودان، لكنها عاجزة عن تأمين التيار لمستشفى أو مدرسة أو ورشة صغيرة. هذا التناقض بات عنوانًا لسياسات تُدار بعقلية المقاول لا بعقلية الدولة، حيث يُقاس النجاح بعدد المشروعات لا بجودتها أو أثرها الاجتماعي.
في النهاية، يتحول مشروع الربط الكهربائي من كونه جسرًا للتعاون الإقليمي إلى مرآة تعكس مأزق النظام نفسه: دولة تُصدر الضوء وتعيش في الظلام. وبينما يروّج الإعلام الرسمي لإنجاز “يضع مصر على خريطة الطاقة العالمية”، يظل المواطن العادي يضيء بيته بشمعة، ينتظر ضوءًا حقيقيًا لا يأتي، لأن حكومته فضّلت أن تبيعه في الخارج مقابل دعم سياسي يُبقي النظام مشتعلاً، ولو على حساب حياة الناس في الداخل.