في ظهور إعلامي نادر على القناة 12 الإسرائيلية في 10 أكتوبر 2025، سعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى تسويق نفسه كـ"صانع سلام"، معربًا عن سعادته باتفاق وقف إطلاق النار الأخير في غزة، وأمله في أن "يسود السلام والأمن والاستقرار بيننا وبين إسرائيل". هذا الظهور، الذي تزامن مع نهاية عامين من حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، أعاد تسليط الضوء على التناقض الصارخ بين الصورة التي يقدمها عباس للمجتمع الدولي والإسرائيلي، والدور الذي ينسبه إليه منتقدوه في تعميق الانقسام الفلسطيني، والمشاركة في حصار غزة، وملاحقة رجال المقاومة.
 

 

حصار غزة: العقوبات الاقتصادية وسلاح الرواتب

منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في عام 2007، اتخذت السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس سلسلة من الإجراءات التي يصفها الكثيرون بأنها "عقابية"، وساهمت بشكل مباشر في تشديد الحصار المفروض على القطاع. بدلًا من مواجهة الحصار الإسرائيلي، يُتهم عباس باستخدام أدوات اقتصادية وإدارية للضغط على حماس، وهو ما أثقل كاهل سكان غزة بشكل مباشر.

تضمنت هذه الإجراءات قطع رواتب آلاف الموظفين الحكوميين في غزة، وإحالة عشرات الآلاف إلى التقاعد المبكر، وتقليص التحويلات المالية المخصصة لقطاعي الصحة والكهرباء. هذه السياسات لم تضعف حماس بشكل كبير، لكنها فاقمت الأزمة الإنسانية، وخلقت شعورًا لدى سكان غزة بأنهم محاصرون من قبل إسرائيل والسلطة الفلسطينية على حد سواء.

وفي خطاباته المتكررة، يلقي عباس باللوم الكامل على حماس، معتبرًا أنها "جلبت النكبة" على الشعب الفلسطيني بتصرفاتها، وأنها قدمت "ذرائع مجانية" لإسرائيل لشن حروبها. وفي هجوم ناري خلال اجتماع للمجلس المركزي في أبريل 2025، اتهم حماس بإلحاق ضرر بالغ بالقضية الفلسطينية، ووجه لهم عبارات قاسية بالعامية مطالبًا إياهم بتسليم الرهائن الإسرائيليين "لإنهاء المسألة". يرى النقاد أن هذا الخطاب يتجاهل مسؤولية السلطة عن تعميق معاناة غزة، ويضعها في صف واحد مع الرواية الإسرائيلية.

 

"التنسيق الأمني المقدس": ملاحقة المقاومة في الضفة

لعل أبرز نقاط الخلاف وأكثرها حساسية هي استمرار "التنسيق الأمني" بين أجهزة أمن السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو التنسيق الذي وصفه عباس بنفسه في وقت سابق بأنه "مقدس". بموجب هذا التنسيق، تعمل الأجهزة الأمنية الفلسطينية بنشاط على منع هجمات ضد أهداف إسرائيلية، وتلاحق وتعتقل عناصر المقاومة في مدن وقرى الضفة الغربية.

وصلت هذه الملاحقات إلى ذروتها في صدامات مسلحة بين الأجهزة الأمنية ورجال المقاومة، خاصة في معاقل المقاومة مثل جنين ونابلس. يُنظر إلى هذه الاعتقالات على أنها خدمة مباشرة لأمن الاحتلال، وتقويض لأي محاولة لتنظيم مقاومة مسلحة فعالة في الضفة الغربية، مما يترك الساحة مفتوحة أمام اعتداءات المستوطنين وتوغلات الجيش الإسرائيلي.

هذا الموقف يتجلى بوضوح في مطالبة عباس المستمرة للفصائل بتسليم سلاحها. ففي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025، دعا حماس والفصائل الأخرى إلى تسليم سلاحها للسلطة "في إطار بناء مؤسسات الدولة الواحدة"، مجددًا تأكيده على أنه "لا يريد دولة مسلحة". ردت حماس على ذلك بأن سلاح المقاومة لا يمكن المساس به طالما بقي الاحتلال.

 

مفارقة "رجل السلام"

في مقابلته مع القناة 12 الإسرائيلية، تحدث عباس عن "خطة إصلاح" للسلطة الفلسطينية، تشمل معالجة ملف رواتب الأسرى بما يتوافق مع رؤية أمريكية، وتطوير قطاعات التعليم والمال والصحة، ليقدم نفسه كشريك موثوق وجاهز لقيادة "دولة عصرية". لكن هذه الصورة تتهاوى عند مقارنتها بمواقفه على الأرض.

بالنسبة لقطاع واسع من الفلسطينيين، فإن سياسات عباس لم تؤدِ إلى السلام أو الدولة، بل إلى تعميق الانقسام، وإضعاف الموقف الفلسطيني، والمساهمة في خنق غزة. إن استعداده الدائم للعودة إلى مفاوضات لا نهاية لها، وتبرؤه من المقاومة المسلحة، وإدانته لعملية "طوفان الأقصى" رغم اعترافه بجرائم الحرب الإسرائيلية، كلها مواقف تضعه في خانة بعيدة عن تطلعات شعبه.

في النهاية، يمثل محمود عباس مفارقة حادة: زعيم يتحدث بلغة السلام إلى الخارج، بينما يُتهم داخليًا بأنه أحد أدوات الحصار والقمع ضد شعبه. ظهوره الأخير على الإعلام الإسرائيلي لم يكن سوى تأكيد جديد على الهوة السحيقة بين الصورة التي يسعى لتكريسها كشريك للسلام، والدور الذي يراه الكثيرون كحارس لأمن الاحتلال ومعرقل لوحدة الصف الفلسطيني في مواجهة أعتى التحديات.