في مشهدٍ تابعه العالم بترقّب، استطاعت المقاومة الفلسطينية في غزة أن تفرض كلمتها، لتثبت مجددًا أنها الطرف الأقوى ميدانيًا وسياسيًا في معادلة الصراع. عملية تبادل الأسرى التي أُنجزت يوم الاثنين، وشهدت تسليم 20 أسيرًا إسرائيليًا أحياء إلى الصليب الأحمر، لم تكن مجرّد خطوة إنسانية، بل رسالة واضحة بأن حماس لا تزال تمسك بزمام المبادرة رغم عامٍ من الحرب المدمّرة التي شنّتها إسرائيل لإضعافها.

منذ اللحظة الأولى، بدت حماس وكأنها تعيد رسم المشهد السياسي بأكمله. فبينما كانت إسرائيل تتحدث عن “تحقيق إنجازات عسكرية” و”تقدّم استراتيجي”، كانت المقاومة تدير الميدان، تفاوض وتقرر وتنفّذ، في مشهد يعيد إلى الأذهان صفقات التبادل السابقة، ولكن هذه المرة من موقع أكثر رسوخًا وثقة.


المحلل السياسي مأمون فندي لخّص المشهد بدقة حين قال: “ممن ستستلم إسرائيل أسراها؟ من المقاومة طبعًا. إذا المقاومة لاعب رئيسي إلى آخر لحظة. لم تُهزم المقاومة بل هي التي تسلّم وتستلم، ولا طرف آخر غيرها في فلسطين”. بهذا التوصيف، يتضح أن ما جرى لم يكن مجرد اتفاق تبادل، بل اعتراف ضمني من إسرائيل ومن العالم بأن حماس لا تزال صاحبة القرار على الأرض الفلسطينية.
 

قوة رمزية واستعراض محسوب
عملية التسليم جرت بهدوء وفي منطقة زراعية جنوب غزة بعيدًا عن الكاميرات، تنفيذًا لبنود اتفاق أمني دقيق. غير أن هذا “الاختفاء الإعلامي” لم يمنع الحدث من أن يتحول إلى مشهد رمزي بالغ القوة. مصدر أمني إسرائيلي وصف رغبة حماس في تسليم الأسرى دفعة واحدة بأنها “استعراض للقوة”، وهو توصيف يعكس إدراك تل أبيب أن المقاومة لم تفقد زمام المبادرة رغم الحصار والتدمير.

الأكثر دلالة هو أن حماس نجحت في الحفاظ على حياة الأسرى الإسرائيليين طوال فترة احتجازهم، في وقتٍ كانت فيه الغارات الإسرائيلية لا تترك مكانًا آمنًا في غزة. الباحث في العلاقات الدولية محمد أبو رزق أكد أن إسرائيل كانت “تسعى للتدمير من أجل التدمير”، وأنها لم تكن معنية باستعادة الأسرى أحياء، مما يجعل تسليمهم اليوم فشلًا مزدوجًا: عسكريًا وإنسانيًا.
 

انتصار تفاوضي قبل أن يكون ميدانيًا
لم يكن تسليم الأسرى مجرد خطوة إنسانية بل تتويجًا لانتصار سياسي وتفاوضي. فحماس فاوضت من موقع قوة، وربطت الإفراج عن الأسرى بوقف إطلاق النار وانسحاب الجيش الإسرائيلي، واضعةً الشروط بدل أن تُفرض عليها.

المحلل مأمون فندي أشار إلى أن فشل إسرائيل في نزع سلاح حماس رغم عامين من القتال يجعل من المقاومة “القوة الفعلية على الأرض”، قائلاً: “من يريد أن ينزع سلاح حماس فليتفضل”. أما الدبلوماسي المصري السابق فوزي العشماوي، فاعتبر أن الخطة الأمريكية التي تبنتها إسرائيل تمثل “فضيحة دولية” لأنها تقوم على “سلام مقابل الاستسلام”، مؤكدًا أن رفض حماس لتلك الشروط هو بحد ذاته انتصار سياسي.

وفي خطابٍ لافت، أكد خليل الحية، رئيس مكتب حماس في غزة وكبير مفاوضيها، أن الحركة “تكتب روايتها بنفسها وتدير المعركة بشروطها”. وأصرّت على إدراج أسماء قيادات بارزة، منها مروان البرغوثي، ضمن قوائم الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم الإفراج عنهم، رغم محاولات إسرائيل التلاعب بالأسماء. ذلك الإصرار، كما يرى المراقبون، أعاد التأكيد على قدرة حماس على إدارة الملفات الكبرى بعقلانية وصرامة في آنٍ واحد.
 

الميدان يحكم... والمقاومة تُسلم وتستلم
في الوقت الذي ظهر فيه بنيامين نتنياهو على شاشات التلفزيون متحدثًا عن “انتصارات هائلة”، كانت الكاميرات تلتقط مشاهد الصليب الأحمر وهو يتسلّم الأسرى من مقاتلي القسام داخل غزة — في دلالة واضحة على من يملك السيطرة الفعلية. لم تعد المسألة مجرد صفقة، بل إعلانًا سياسيًا بأن الحرب التي سعت لتقويض حماس انتهت إلى نتيجة معاكسة تمامًا.

لقد تحولت عملية التبادل إلى لحظة فاصلة في الصراع. فبعد شهور من الدمار والحصار، خرجت المقاومة لتثبت أنها لا تزال الرقم الأصعب في المعادلة، وأنها قادرة على فرض إرادتها والتحدث باسم فلسطين. بهذا، يتأكد ما قاله مأمون فندي: “لم تُهزم المقاومة، بل هي التي تُسلم وتستلم.”