لم يكن صباح الإسكندرية الأخير عاديًا؛ ففي أحد أحيائها الشعبية تصاعدت صرخات الطفلة الصغيرة التي رأت والدها يجهز على والدتها خنقًا حتى الموت، قبل أن يوجّه غضبه الأعمى إلى شقيقتها، ليسقط الجثمانان في مشهد صادم أمام عينيها البريئتين.
جريمة مقتل الشقيقتين إيمان وشريفة على يد زوج الأولى لم تكن مجرد حادثة عائلية عابرة، بل ناقوس خطر يدق بقوة ليكشف مستوى الانفلات الأخلاقي والعنف الأسري الذي يتزايد تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في مصر.
 

بداية القصة
أقدم الزوج المتهم، بحرق زوجته إيمان 40 عامًا، وشقيقتها شريفة 25 عامًا، داخل مسكن الزوجية، أمام أعين طفلته الصغيرة البالغة من العمر 11 عامًا.

بدأت القصة قبل أسابيع قليلة، حين نشب خلاف بين الزوج وزوجته، قام على إثره بالاعتداء عليها بالضرب والاستيلاء على أموالها وهاتفها وطردها من المنزل برفقة ابنتهما الكبرى، وفقا لرواية الأسرة، التي نشرتها صفحات على منصات التواصل الاجتماعي متخصصة في الدفاع عن حقوق المرأة. 

لجأت إيمان إلى جيرانها الذين ساعدوها على العودة إلى منزل والدها، بينما تدخل والدها لاحقًا للتوسط وعرض إنهاء الزواج دون أي مطالب مادية، خاصة بعد تاريخ طويل من الخلافات والعنف المستمر على مدار 15 عامًا من الزواج.

وأفادت رواية شهود العيان، أن الزوج اتفق مع والد إيمان على أن تعود الزوجة في اليوم التالي بصحبة شقيقتها شريفة لتجميع ملابسها وملابس طفلتيها، وعندما حضرت الأختان، وبدأت كل منهما في جمع الأغراض، قام الزوج بإخراج زجاجة بنزين، وسكبها على زوجته وشقيقتها، ثم أشعل فيهما النار أمام أعين ابنته، وأغلق الباب عليهما.

ودفعت صرخات الاستغاثة المدوية إحدى الجارات للتدخل، حيث تمكنت من فتح الباب وإخماد النيران باستخدام بطانية، إلا أن الحريق كان قد التهم أجساد الضحيتين وأجزاء من الشقة أيضًا.
 

وفاة شريفة وإيمان متأثرتين بالحروق
نقلت سيارات الإسعاف الأختين إلى المستشفى في حالة حرجة، بعد إصابتهما بحروق بالغة في مختلف أنحاء الجسد. وبعد أربعة أيام فقط، فارقت شريفة الحياة متأثرة بإصابتها، فيما لحقت بها شقيقتها إيمان.

وخلفت الجريمة مأساة إنسانية مزدوجة، إذ فقدت أسرة الإسكندرية ابنتيها، فيما تُركت طفلتان صغيرتان دون أم.
https://www.facebook.com/watch/live/?ref=watch_permalink&v=1068445545401785

ضغوط الحياة تتحول إلى محرقة أسرية
التحقيقات الأولية تشير إلى أن الجريمة جاءت إثر خلافات أسرية حادة تطورت إلى مشاجرة، لكن خلف هذه التفاصيل البسيطة يختبئ واقع مرير: عائلات مسحوقة تحت ضغط الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار الجنوني.

خبراء الاجتماع يرون أن هذه ليست واقعة فردية بل انعكاس لحالة عامة؛ حيث تتحول البيوت إلى ساحات عنف، وتتحول الخلافات البسيطة إلى جرائم مروّعة بسبب الاحتقان النفسي والضغوط الاقتصادية التي تكسر الأعصاب.

الدكتورة هالة منصور، أستاذة علم الاجتماع، تؤكد أن ارتفاع معدلات العنف الأسري في مصر مؤشر على أزمة مجتمعية خطيرة، موضحة: "حين يعجز الفرد عن تلبية احتياجاته الأساسية في ظل الغلاء المستعر وغياب العدالة، تتحول الطاقة السلبية إلى عنف موجّه ضد الأضعف: الزوجة، الأطفال، الأشقاء”.
 

انفلات أخلاقي أم انهيار منظومة؟
هذه الجريمة ليست استثناء؛ التقارير الحقوقية والإعلامية توثق قفزة في جرائم قتل النساء داخل البيوت المصرية خلال السنوات الأخيرة، في ظل تراجع منظومة القيم، وانهيار شبكات الدعم الأسري، وتآكل الثقة في مؤسسات العدالة.

الناشطة الحقوقية منى عبدالسلام ترى أن ما يحدث هو نتيجة تفكيك منظومة الأمان الاجتماعي بالكامل:

“الناس في مصر اليوم يعيشون حالة حصار نفسي واقتصادي. لا توجد حماية قانونية كافية للنساء، ولا برامج حقيقية للتوعية، والنتيجة أن البيت الذي يفترض أن يكون ملاذًا، صار ساحة قتل”.
 

الفقر يغذّي الجريمة.. والسلطة غائبة
المراقبون يربطون بين تصاعد معدلات الفقر وتزايد حوادث العنف الأسري، معتبرين أن السياسات الاقتصادية الفاشلة للنظام القائم فاقمت من معاناة المصريين، وألقت بالملايين في دائرة العوز والقهر.

يقول الخبير الاقتصادي أحمد تركي: “الأسرة المصرية تعيش أسوأ أوضاعها منذ عقود. ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، غياب فرص العمل، وانعدام الأمل في الإصلاح، كل هذا يحوّل التوتر اليومي إلى انفجار في شكل جريمة”.

ويضيف: “حين يُستنزف المواطن في لقمة عيشه وتُسحق كرامته، فلا تتوقع منه أن يحافظ على توازنه النفسي. ما نراه اليوم من جرائم أسرية هو الوجه الآخر للفشل السياسي والاقتصادي”.
 

تصريحات من خبراء علم النفس والاجتماع حول الأبعاد النفسية للجريمة
الدكتور محمد السعيد – أستاذ علم النفس الإكلينيكي: “هذه الجرائم تعكس حالة الانفجار النفسي لدى الجناة، حيث يؤدي تراكم الضغوط الاقتصادية والشعور بالعجز إلى ما يُعرف بـ"العنف الإزاحي"، أي توجيه الغضب المكبوت إلى أقرب الأشخاص، وغالبًا النساء”.

الدكتورة ليلى مصطفى – باحثة في قضايا الأسرة: “الفقر والبطالة ليسا المبرر، لكنهما وقود للعنف. مع غياب الدعم النفسي والوعي الثقافي، تصبح الزوجة الحلقة الأضعف. الأمر لا يتعلق فقط بالاقتصاد، بل بانهيار منظومة التربية والقدوة داخل المجتمع”.

أحمد أبو زيد – خبير علاقات أسرية: “الجريمة ليست وليدة لحظة غضب فقط، بل نتيجة تآكل الروابط الأسرية، وانعدام لغة الحوار، مع انتشار نماذج إعلامية تشجّع على العنف بشكل غير مباشر”.
 

غضب الجمهور: لا أمان في بلد الفساد
على شبكات التواصل الاجتماعي، ضجّت التعليقات الغاضبة عقب نشر تفاصيل الحادث. كتب أحد المغردين: “قتل زوجته وأختها قدام عيالها! بقى الدم أرخص من العيش في البلد دي”.

بينما علّقت أخرى: “مش جريمة عادية، دي نتيجة الفقر والظلم اللي خنق الناس.. النظام الانقلابي حطنا في دوامة الموت”.

آخرون حمّلوا الدولة مسؤولية تفاقم الظاهرة، مشيرين إلى غياب برامج الحماية الاجتماعية وترك الأسر تواجه مصيرها وحدها في مواجهة الغلاء والتهميش.
 

ظاهرة تحتاج مواجهة شاملة
الخبراء يؤكدون أن مواجهة هذه الكوارث تتطلب أكثر من القبض على الجاني؛ فهي ظاهرة ممتدة تحتاج سياسات اقتصادية عادلة، وبرامج حماية للنساء والأطفال، وحملات توعية تُعيد الاعتبار للقيم الأسرية.

لكن في ظل استمرار الأوضاع الاقتصادية المأزومة، يظل السؤال الموجع: كم ضحية أخرى ستدفع حياتها ثمن فساد المنظومة؟