فراس أبو هلال
رئيس تحرير صحيفة عربي 21 الإلكترونية... كاتب وباحث في شؤون الشرق الأوسط
لم يكن يوم السابع من أكتوبر يوما عاديا، لا بالنسبة للفلسطينيين والعرب ولا على الاحتلال. سيصبح هذا اليوم علامة فارقة في تاريخ المنطقة ككل، ليس فقط بسبب أبعاده العسكرية التي كتب وقيل الكثير فيها، ولكن بسبب الخسارات الاستراتيجية للاحتلال، والتي سنعرض أهمها في هذا المقال، والتي تشير كلها إلى نقطة جوهرية واحدة: هشاشة الاحتلال.
(1)
فشلت "القبة الحديدية" في الساعة الأولى في صد الرشقات الصاروخية التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية، على الرغم من المبالغ الهائلة التي صرفت على مشروع القبة. لقد روج الاحتلال لهذا المشروع وتفرده لدرجة أنه أصبح يسوقه للبيع في دول العالم، ومن ضمنها دول عربية.
سيتحدث الخبراء العسكريون عن أسباب هذا الفشل، وغالبا سيدرس الاحتلال هذه الأسباب ليطور من المنظومة، ولكن الضرر الأساسي قد حصل فعلا. أثبتت المعركة من قبل فصائل فلسطينية محدودة القوة والخبرة والإمكانيات أن "القبة الحديدية" مشروع فاشل، وسينشأ بعد انقشاع غبار المعركة "تقدير" دولي يدرك محدودية الصناعات الإسرائيلية "الدفاعية" التي كان يروج لقوتها، وسينسحب هذا التقدير غالبا على كافة الصناعات الحربية التي ينتجها الاحتلال.
هذه خسارة استراتيجية سيحتاج الاحتلال وقتا طويلا لتعويضها!
(2)
لأول مرة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي يتم تعطيل مطارات عسكرية عن الخدمة، وهو ما مكن مقاتلي حماس من الاستمرار بعملية الاقتحام لساعات دون الخوف من تدخل سلاح الجو الإسرائيلي. تعطل المطارات يفسر أيضا حجم الخسائر التي تكبدها الاحتلال.
استطاع الاحتلال تعطيل قوة الطيران العربية خلال ساعات في حرب النكسة، وهو ما شكل الفارق الأهم في حسم الحرب وهزيمة العرب، واستطاع الفلسطينيون بإمكانيات بدائية وبفعل عنصر المفاجأة تعطيل مطارات الاحتلال وتغيير مسار المعركة.
ولكن ما أهمية هذا الأمر ونحن نعلم بأن قوة سلاح الجو الإسرائيلي الهائلة استعادت زمام المبادرة وبدأت تقصف القطاع بقوة نارية كبيرة؟ إن الخسارة الاستراتيجية الإسرائيلية هنا هي أن هذا الجيش هو جيش يستطيع الانتصار من الجو فقط، أما إذا تعطلت قوة سلاحه الجوي فهو معرض للهزيمة ليس فقط من قبل جيوش، بل حتى من قبل فصائل مقاومة محدودة القوة. والمهم هنا أن حماس أثبتت أنها قادرة على تعطيل هذا السلاح الهائل -ولو لوقت محدود- باستخدام التخطيط والمفاجأة.
خسرت إسرائيل صورتها كجيش يمتلك فائض القوة، إذ أثبت أن هذا الجيش "نمر من ورق"، لن يتمكن بعد الآن من إثارة الرعب لدى أي طرف!
(3)
أعلنت الولايات المتحدة تحريك حاملة الطائرات "جيرالد آر فورد" لمنطقة الشرق الأوسط لاستخدامها في حال احتاج الاحتلال لذلك. وفي السياق نفسه، وافقت واشنطن على تقديم مساعدات عسكرية وذخائر ودعم للقبة الحديدية بعد طلب نتنياهو ذلك منه في اتصالين هاتفيين.
تضطر الولايات المتحدة، الدولة الأكبر في العالم، لتحريك حاملة طائرات، ونقل أسلحة وذخائر، والتعهد بمساعدات لمنظومات دفاع، فقط بعد ساعات من هجوم لفصيل فلسطيني يقع تحت الحصار منذ 17 عاما. تبدو خسارة الاحتلال الاستراتيجية هنا كبيرة، حيث تظهر هشاشته وعدم قدرته على حماية نفسه فضلا عن حماية مصالح الغرب الاستعماري الذي يمثله في المنطقة.
يكتسب الاحتلال أهميته لدى الغرب من منطلقين: الأول يتعلق بأن تأسيس دولة الاحتلال كان حلا لما عرف بأوروبا بـ"المسكتسب للحالة اليهودية"، والثاني يرتبط بكون الكيان الاحتلالي دولة وظيفية تمثل مصالح الاستعمار الغربي في المنطقة وتدافع عنها. اكتسبت "إسرائيل" أهمية أكبر لدى الولايات المتحدة بعد انتصارها على الجيوش العربية في نكسة عام 1967، لأن واشنطن اقتنعت أن هذا الكيان يستطيع أن يكون "وكيلا حصريا" لها في المنطقة. ومع ظهور هشاشة دولة الاحتلال أكثر فأكثر فإن أهميتها الاستراتيجية كممثل للاستعمار ستتراجع مع الوقت بلا شك، وستصبح عبئا بدلا من كونها رصيدا له.
(4)
ارتكب الاحتلال جرائم التطهير العرقي ضد الفلسطينيين في عام 1948 وما سبقه، واستمر بجرائمه حتى اليوم. ولكنه في نفس الوقت عمل بشكل جاد ومنظم ومكلف على بناية رواية مغايرة لحقيقته في العالم، ليبدو جيشا أخلاقيا مقابل "برابرة" عرب يفتقدون للأخلاق في الصراع.
مع بداية المعركة، ركز الإعلام الغربي على بعض الممارسات الفردية التي حدثت أثناء الاقتحام والتي تعزز الرواية الصهيونية، ولكن هذا لن يستمر للأبد.
إن طريقة الرد الإسرائيلي الذي يستهدف عمارات سكنية بدون تحذير سكانها، والمساجد، والبنوك، والأطفال، والعائلات، سيقلب الرواية مع الوقت.
صحيح أن الدعم الغربي للاحتلال قائم بغض النظر عن "الرواية" أو "الصورة"، ولكن هذا البعد يهم الاحتلال كثيرا. هذه ستكون خسارة استراتيجية ستكلف الاحتلال كثيرا من الوقت والجهد والمال لترميمها.