نشر موقع "الحرة" تقريرًا مأساويًا عن فيضانات "درنة" التي أكلت الأخضر واليابس، والدمار الذي لحق بالمدينة الليبية خلال 24 ساعة فقط.

وأشار التقرير إلى أن إعصار دانيال وانهيار السدود وغزارة الأمطار على "درنة" تسبّبوا في اختفاء ربع المدينة الليبية، حيث سُحقت بيوت، وحُفرت مقابر جماعية، وحُوصر عشرات الآلاف، وجرف تيار المياه المتدفق عشرات المنازل ونحو 2000 شخص نحو البحر.

واتفق الخبراء على أن ما خلفته "دانيال" في درنة ليس بفعل عاصفة عادية، بل ظاهرة "هجينة نادرة" دمرت كل شيء. فما السر وراء كل هذا الموت والدمار؟

 

ظاهرة هجينة في "درنة"

يقول خبراء إن سر القوة العاتية المفاجئة التي دمرت درنة يكمن في التحول الكبير الذي حدث على شواطئ ليبيا، فهناك تغيرت خصائص العاصفة، لتصبح "ميديكين"، وهي "ظاهرة هجينة" كما تصفها المنظمة العالمية للأرصاد الجوية.

 

ماذا يعني "ميديكين"؟

يطلق على العاصفة اسم "ميديكين" (medicane) عندما تجمع خصائص ومؤشرات بين "الأعاصير المدارية، والعواصف التي تدور عكس اتجاه عقارب الساعة"، والتي تنشط فوق البحر المتوسط خلال أشهر سبتمبر، وحتى يناير من كل عام، وهو مصطلح ظهر في الثمانينيات من القرن الماضي، يدمج كلمتي "المتوسط" (mediterranean) و"إعصار" (hurricane) بالإنكليزية.

والعاصفة التي بدأت في الخامس من سبتمبر، ووصفها الخبراء بأنها "ظاهرة نادرة" من حيث كمية المياه التي هطلت، أوقعت عشرات الوفيات في دول أوروبية وتركيا قبل أن تصل إلى سواحل ليبيا.

الرئيس التنفيذي لمركز طقس العرب، محمد الشاكر، يقول إن "دانيال عاصفة متوسطية نشأت في البحر الأبيض المتوسط نتيجة لارتفاع درجات حرارة سطح البحر عن معدلاته والتي تصطدم بهواء بارد في طبقات الجو العليا، وهو ما يتسبب بمنخفض جوي وبتعمقه يكتسب خصائص شبه استوائية، ما يحوله إلى نظام جوي مغلق على شكل عاصفة أو إعصار".

وأشار في حديث لموقع "الحرة" إلى أن مثل هذه العواصف التي أصبحت تتواتر وتعرف باسم "ميديكين"، وظهرت منذ عشرات السنوات، لكن مع تغيرات المناخ الحاصلة أصبحت تظهر بشكل أكبر خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة".

وتعتبر "دانيال" من أسوأ الظواهر الجوية منذ بداية العام في منطقة حوض المتوسط نتيجة للاحتباس الحراري، والتي جاءت بعد صيف شديد الجفاف تسبب في انخفاض مخزون المياه في عدة دول، بحسب تقرير لوكالة فرانس برس.

وأشار تقرير الوكالة إلى أنه مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، يحتوي الغلاف الجوي على مزيد من بخار الماء بنحو 7% لكل درجة إضافية، مما يزيد من خطر هطول الأمطار الغزيرة، خاصة مع تضافر ذلك مع عوامل حاسمة أخرى مثل التحضر والتوسع العمراني، إذ تسهم هذه العوامل في تهيئة الظروف المناسبة لهطول الأمطار الغزيرة التي تخلف كوارث باهظة الثمن.

 

بداية العاصفة

بداية العاصفة كانت في اليونان والتي تشكلت في الرابع من سبتمبر، حيث أطلق اسم "دانيال" من قبل هيئة الأرصاد الجوية الوطنية اليونانية.

ضربت العاصفة، في الخامس والسادس من سبتمبر، اليونان، حيث سجل سقوط 750 ملم خلال 24 ساعة في قرية زاكورة، وهو ما يعادل هطول الأمطار في 18 شهرا.

كما سجلت مدينة بورتاريا أيضًا رقمًا قياسيًا في هطول الأمطار فيها بلغ معدله 884 ملم، وتبعها أيضًا فيضان نهر كرافسيدوناس ليدمر جسرًا ويخلف خسائر مادية على ضفتيه.

واستمرت العاصفة يومي السابع والثامن من سبتمبر حيث ارتفعت مناسيب المياه في نهر بينيوس ووداي تيمبي في اليونان.

وبموازاة ما كان يحصل في اليونان، كانت العاصفة تضرب مناطق في تركيا حيث تأثرت مدينة إجنيدا بمقاطعة كيركلاريلي، وحتى غمرت المياه مناطق أرناؤوط كوي وباشاك شهير وكوتشوك شكمجة في إسطنبول.

وفي بلغاريا أخلت السلطات بعض القرى التي تأثرت بقدوم الإعصار في شرقي البلاد، حيث تم تسجيل معدلات هطول للأمطار مرتفعة في منطقة كوستي بلغت 311 ملم، وفي أهتوبول بلغت 196 ملم، وفي تساريفو بلغت 330 ملم خلال فترة 20 ساعة.

 

وصول العاصفة إلى ليبيا

وصل الإعصار إلى شرقي ليبيا، في العاشر من سبتمبر، و"ضرب بشدة قبل الفجر والناس نيام عدة في بنغازي ومنطقة الجبل الأخضر"، بحسب وكالة الأنباء الليبية "وال".

وخلال الساعات الأولى وصل الطقس السيء لغالبية مدن الجبل الأخضر، مثل شحات والمرج والبيضاء وسوسة ودرنة وهي المدينة الأكثر تضررا.

مع بداية الأمطار سجلت معدل هطول بلغ 170 ملم من المياه في برقة الواقعة في شمال شرقي البلاد حيث الأمطار نادرة جدا في هذا الموسم، فيما بدأ المركز الوطني للأرصاد الجوية الليبي في رصد فيديوهات لفيضانات في مدينة تاكنس التابعة للجبل الأخضر شمال شرقي البلاد.

وأعلنت السلطات المحلية في بنغازي حظر تجول وإغلاق للمدارس لأيام، فيما نشرت فرق الإنقاذ في درنة الواقعة على بعد نحو 900 كلم شرق العاصمة طرابلس.

ووصلت العاصفة إلى ذروتها، في العاشر من سبتمبر، إذ بلغت سرعة الرياح بين 70 إلى 80 كلم في الساعة، ما أدى إلى انقطاع الاتصالات وسقوط أبراج الكهرباء والأشجار، بحسب رصد المركز الوطني للأرصاد الجوية في ليبيا وفق بيان نشرته المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة.

وما بين الساعة 8 صباحًا من يوم الأحد وحتى 8 صباحًا من يوم الاثنين تلقت مدينة درنة أمطارًا غزيرة تراوحت بين 150 إلى 240 ملم ما تسبب في حدوث فيضانات مفاجئة، كما سُجّل خلال هذا اليوم أعلى معدل يومي للأمطار في المدينة بلغ 414 ملم، وهو رقم قياسي جديد لهطول الأمطار.

وتقع مدينة درنة في شمال شرقي ليبيا على ساحل البحر المتوسط، فيما تحدها من الجنوب سلسلة من الجبال تعرف باسم "الجبل الأخضر".

وتنقسم المدينة إلى قسمين، حيث يعبرها مجرى واد سُمّيت المدينة تيمنا به، "وادي درنة"، ويسكنها نحو 100 ألف نسمة.

وملأت الأمطار وادي درنة الذي عادة ما يكون جافًا جنوبي المدينة، لكن ضغط منسوب المياه كان أكبر من قدرة سد درنة الذي بُني لحماية المدينة من الفيضانات.

يتكون سد درنة من قسم علوي وآخر سفلي، السد العلوي يحمل اسم "سد البلاد"، بسعة تخزين تبلغ 1.5 مليون متر مكعب من المياه ويبعد عن قلب المدينة حوالي كلم واحد، بينما يتسع سد "بو منصور" (السفلي)، لـ 23 مليون متر مكعب وهو يبعد حوالي 13 كلم جنوبي السد الأول.

 

30 مليون متر مكعب من المياه

البداية كانت في انهيار السد الأول، ما أطلق العنان لسيل هائل وصل للسد الثاني، ليتجمع في مجرى الوادي نحو 30 مليون متر مكعب من المياه، أو ما يعادل 12 ألف حمام سباحة أولمبي.

ومع استمرار هطول الأمطار وانهيار السدود أصبحت المياه تجري بسرعة قُدّرَت بـ12 كلم في الساعة ضمن مسار طوله 13 كلم، والتي اجتاحت الجسور والمدينة وخرجت الأمور عن السيطرة وأصبح الوضع كارثيًا، حيث تعززت سرعة نزول التيار المائي بسبب الاختلاف في الارتفاع بين السدين الأول والثاني.

وبسبب فيضان المياه والطمي عن مجرى الوادي جُرِفت أحياء بأكملها أو غمرتها بالطين، لتتحول الشوارع الرئيسة التي كانت سوقًا تجاريًا بفضل المحلات المصطفة على جانبيه إلى منطقة مهجورة إلى حد كبير، بحسب رويترز.

وعلى الواجهة البحرية للمدينة تدمرت الحواجز الإسمنتية لتصطدم بها السيارات والأشجار التي جرفتها المياه، كما تناثرت ملابس أطفال وألعابهم وقطع أثاث وأحذية وممتلكات أخرى على الشاطئ بسبب السيول.

ويوضح الشاكر أن "العاصفة دانيال اكتسبت قوة كبيرة قبل دخولها لليابسة في ليبيا، والتي ترافقت مع كميات كبيرة من الأمطار والرياح العاتية".

ويبين أن معدلات الأمطار التي هطلت في مناطق محاذية لدرنة بلغت "حوالي 500 ملم، أي ما يعادل 500 لتر في المتر المربع الواحد وكل ذلك خلال 24 ساعة فقط"، ولمعرفة تأثير هذه المعدلات فهي تمثل "الأمطار التي تهطل على العاصمة البريطانية لندن في سنة كاملة، أو الكميات التي تهطل في الرياض في ست سنوات، أو معدل ما ينزل على العاصمة الأردنية، عمّان، في ثمانية أشهر" وهي تعادل ما يهطل على حوض درنة خلال حوالي 18 شهرًا، إذ يبلغ المتوسط السنوي للهطول أكثر من 300 ملم بحسب بيانات 1960-2000، وفق دراسة عن المنطقة.

وأضاف أن كميات الأمطار الهائلة خاصة في المناطق الجبلية المحاذية لدرنة، بدأت بالنزول على شكل سيول مسببة فيضانات هائلة في المدينة والمناطق المجاورة لها، والتي تدفقت بطبيعة الحال عبر مجرى وادي درنة ما تسبب في امتلاء السدين وفيضانهما وتدميرهما، ما تسبب في فيضانات أصبحت ارتفاعها بالأمتار".

واستطرد أن المياه ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة في مجرى الوادي، حيث اجتاحت مدينة درنة وشوارعها "كالطوفان متجهة باتجاه البحر، لتأخذ في طريقها نحو 25% من المدينة وشوارعها ومنازلها، ليصبح عرض الوادي كبيرًا جدًا".

وتصف صحيفة نيويوك تايمز في تقرير لها ما حصل في درنة "أن المدينة تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، في نهاية وادٍ طبيعي طويل وضيق، وهو جاف في معظم أيام السنة.. وعمل الوادي كقُمع، مما دفع المياه المتدفقة إلى وسط المدينة. وفاضت ضفاف النهر، وجرفت الجسور، وانفجر سدان في أعلى الوادي، مما أدى إلى زيادة مياههما في الطوفان".

عالمة المناخ، جينيفر فرانسيس، قالت إن "المياه الدافئة غذت هطول الأمطار في عاصفة دانيال"، مشيرة إلى أن هذه "ظاهرة استثنائية يتم ملاحظتها في جميع أنحاء العالم".

وأضافت لوكالة أسوشتيد برس "لا يوجد أي مكان محصن ضد العواصف المدمّرة مثل دانيال".