في يوليو 2018، وبعد 3 أشهر فقط من تنصيبه “بالتزوير” رئيسا لولاية ثانية، خرج رئيس النظام عبد الفتاح السيسي ليقول للمصريين: “مافيش حاجه ببلاش .. خلاص.. عايز؟ ادفع (ثمن الخدمة)”

هذا التصريح كان إيذانا ببدء مرحلة جديدة من تخلي الدولة المصرية، لأول مرة منذ عام 1952 عن دورها في تقديم الخدمات للشعب والتخلي عن تقديم أي دعم حكومي لسلع الفقراء سواء الغذاء أو العلاج أو الطاقة، وفق تقرير لموقع “الاستقلال”.

لم يقتصر الأمر على رفع أسعار الخدمات الروتينية بصورة فاحشة، ولا إلغاء الدعم عن السلع الضرورية مثل الطاقة والسلع التموينية، لكنه نال أهم الخدمات وهي مستشفيات الفقراء الحكومية التي صدر قرار ببيع بعضها وتأجير أخرى لمستثمرين أجانب، بخلاف رفع سعر الخبز المدعم.

تخلي سلطة السيسي عن خدمات أساسية تقدم في كل دول العالم دون تمييز بوصفها من أساسيات ومفتاح شرعية الأنظمة، مثل الرعاية الصحية، معناه الحكم بالموت على من لا يدفع ثمن علاجه.

بيع الدولة كل الخدمات كالصحة والكهرباء والخبز والتعليم وكل الخدمات بسعرها بحجة أنه “مفيش شيء ببلاش” يخالف دورها الطبيعي ويحولها إلى مجرد سلطة جباية وبيع الأرض والوطن.

غياب السلطة عن تقديم الخدمات الأساسية وبالمقابل بناء القصور والمباني الفارهة وشراء الطائرات والسيارات الفارهة لأفرادها حولها إلى “عصابة” تسرق مقدرات الشعب وتخالف أبسط قواعد الحكم.

“تأجير المستشفيات”

بالتزامن مع الارتفاع الهائل في تكاليف العلاج والدواء، وهجرة الأطباء المصريين لتدني أجورهم وانهيار حال المستشفيات، صادق رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، 24 يونيو 2024 على قانون لبيع وتأجير مستشفيات الفقراء.

القانون، الذي مرره مجلس النواب 20 مايو 2024 تحت مسمى “قانون المنشآت الطبية”، والذي أثار جدلا حادا بين المصريين يتيح بيع وتأجير المستشفيات الحكومية التي يعالج فيها فقراء مصر “للمستثمرين المصريين أو الأجانب”

السيسي تجاهل بذلك تحذيرات الأطباء ومؤسسات المجتمع المدني، من نتائج سلبية على قطاع الرعاية الصحية للمصريين إذا أقر القانون، بالتزامن مع التحذير من هجرة كبيرة للأطباء المصريين وتدهور أحوال القطاع الصحي في مصر.

حيث ناشدته النقابة العامة لأطباء مصر، برئاسة د. أسامه عبد الحي، استخدام صلاحياته الدستورية، بعدم التوقيع، على قانون “تأجير المستشفيات”، لكنه تجاهل النقابة.

وبدلا من تحسين الخدمات المتدهورة، جاء قرار بيع وتأجير المستشفيات التابعة للحكومة.

وتمثل المنشآت الطبية التابعة لوزارة الصحة حوالي 80 بالمئة من إجمالي المستشفيات الحكومية التي تقدم خدماتها مجانا أو بأسعار رمزية.

القرار أثار انتقادات، في ظل تخوفات من ارتفاع تكلفة الخدمات الصحية التي تقدمها المستشفيات الحكومية لعامة الشعب البسطاء، عقب تولي إدارتها مستثمرين وأجانب.

وهذه ثاني خطوة لتخلي النظام عن تقديم الخدمات للمصريين بعدما ألغى الدعم عن الخبز لأول مرة في تاريخ مصر منذ عقود، كما ألغى الدعم عن الطاقة ما زاد من فواتير الكهرباء والغاز والمياه.

معدلات الفقر

هذه التحركات تعد إيذانا بانتهاء عهد الدعم رغم أن قرابة 33 بالمئة من المصريين تحت خط الفقر، حيث أكد البنك الدولي في مايو/أيار 2024 ارتفاع معدل الفقر في مصر بنسبة 32.5 بالمئة خلال 2022 مقارنة بـ 29.7 بالمئة خلال العام المالي 2019-2020.

ورغم أن نتائج بحوث الإنفاق والدخل، التي يصدرها الجهاز المركزي التعبئة والإحصاء كل عامين، لم تصدر منذ عام 2020 إلا أن البنك أوضح أنه حصل على تلك البيانات من الحكومة، مؤكدا عيش 66 بالمئة من الفقراء في الريف.

وبلغ معدل الفقر 29.7 بالمئة، في آخر نسخة منشورة من “بحث الدخل والإنفاق”، الذي أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في ديسمبر/كانون الأول 2020، وكانت بياناته تغطي حتى مارس/آذار 2020، ما قبل انتشار فيروس كورونا.

وسبق أن توقعت مستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، هبة الليثي، أن يرتفع مستوى الفقر في عام 2022-2023، إلى 35.7 بالمئة، مع ارتفاع خط الفقر إلى 1478 جنيها شهريا، وارتفاع خط الفقر المدقع إلى 1069 جنيها شهريا.

ويمثل هذا القانون امتدادا لسياسات حكومية تهدف إلى تقليص الإنفاق العام على الصحة.

ومنذ عام 2016 لم يتجاوز الإنفاق الحكومي الحقيقي على القطاع الصحي كنسبة من الناتج المحلي 1.6 بالمئة، في مخالفة صريحة للدستور المصري الذي ينص على ألا تقل هذه النسبة عن 3 بالمئة.

قصة البيع

في 7 مايو/أيار 2024، قدم رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي مشروع قانون إلى مجلس النواب يمنح القطاع الخاص حق “إدارة وتشغيل المنشآت الصحية”

أثار المقترح كثيرا من الجدل في ظل غياب ضمانات تقنن العمل به، وانتقد مصريون “بيع” المستشفيات التي تعالج الفقراء وعدوا القانون تخليا جديدا من جانب نظام السيسي عن وظيفته الأصلية كحاكم في تقديم الخدمات للشعب.
لم يمر أسبوعان حتى قام مجلس النواب بتمرير القانون الغامض، ونفت الحكومة عزمها بيع أي مستشفيات حكومية للمستثمرين، وتمسكت بعبارة “تشغيل المستشفيات” المملوكة للدولة، بدعوى “تحسين جودة خدمات المستشفيات”

قانون “المنشآت الصحية”، نص على منح التزام إدارة وتشغيل المرافق العامة لمدة لا تتجاوز 15 عاما، مشترطا الحفاظ على المنشآت الصحية وما تشتمل عليه من تجهيزات وأجهزة طبية، والالتزام بتقديم الخدمات الصحية بأحكام القوانين والقرارات المطبقة على المنشآت الصحية.

كان لافتا أن القانون الذي أقره البرلمان المصري في شأن “إدارة وإنشاء وتطوير وتشغيل المنشآت الصحية”، قد استثني من ذلك مراكز ووحدات الرعاية الصحية الأساسية، وصحة الأسرة، وكذلك مراكز تجميع الدم ومشتقاته وتجميع البلازما.

والمفارقة هنا أن الشركة الوحيدة المحتكرة لمنتجات البلازما هي شركة يملكها الجيش وليست الحكومة ولا الشعب، وهي شراكة بين الجيش المصري وشركة “جريفولز” Grifols الإسبانية.

وهي شركة تم تدشينها في 20 أكتوبر/تشرين أول 2021، بحسب موقع وزارة الدفاع المصرية، ما يعني أن بيع شركات الجيش أو تأجيرها خط أحمر من جانب نظام السيسي.

وقد بدأ تنفيذ القانون بالفعل، حتى قبل تصديق السيسي عليه، إذ طرحت الهيئة العامة للاستثمار بالتزامن مع مناقشة القانون في مجلس النواب، ستة مستشفيات حكومية على المستثمرين.

وهذه المستشفيات الحكومية الستة هي مستشفيات يلجأ لها البسطاء من الشعب المصري وهي: أبو تيج بأسيوط وحميات البحر الأحمر وكوم حمادة بالبحيرة والعجوزة التخصصي بالجيزة، وهليوبوليس بالقاهرة، والقاهرة الجديدة.

ويبلغ عدد المستشفيات في مصر نحو 1809 مستشفيات، وذلك وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بينها 664 مستشفى حكوميا، و1145 مستشفى خاصا.

مخاطر الخصخصة

أحد أعضاء مجلس نقابة الأطباء المصرية أكد في تصريح لـ “الاستقلال” أن هذا القانون الذي يتحدث عن إدارة وتأجير المستشفيات، ليس سوى خطوة تمهد بها الحكومة لبيع وخصخصة المستشفيات الحكومية.

وأوضح، مفضلا عدم ذكر اسمه، أن القانون محاولة حكومية للتخلص من عبء المخصصات المالية التي يحددها الدستور للإنفاق على الصحة (3 بالمئة) من إجمالي الموازنة المصرية، وتحميل نفقة العلاج للمواطن.

وأبدى عضو مجلس نقابة الأطباء، تخوفه على مستقبل الخدمة الطبية التي تقدمها المستشفيات الحكومية للفقراء، ومصير الأطقم الطبية والفنيين والعاملين بها، وتوقع مزيدا من هجرة الأطباء المصريين للخارج، وبالمقابل تعيين القطاع الخاص أطباء غير أكفاء برواتب زهيدة.

ويشير موقع “صحيح مصر” إلى أن القانون لم يحدد آلية محددة للتعاقد مع المستثمرين على إدارة المستشفيات الحكومية، بالاتفاق المباشر أو المناقصات أو الحصول على نسبة من أرباح تلك المستشفيات، تاركا للحكومة ممثلة في رئيس الوزراء ووزير الصحة تحديد تلك الآلية.

وينقل عن “ناشط مستقل في مجال الصحة”، تفسيره هذا “اللغز الكبير”، وهذا الغموض إلى أن الحكومة تهدف إلى شيء واحد، وهو تخفيض الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة.

وذلك ضمن مستهدفاتها لتقليل الأعباء الملقاة على عاتق الموازنة العامة للدولة، وذلك تطبيقا لاشتراطات صندوق النقد الدولي، والذي يحث الحكومة على تقليل النفقات العامة.

ويعتمد قطاعات كبيرة من المصريين بصورة أساسية على المستشفيات الحكومية، التي تقدم خدماتها بالمجان أو مقابل أسعار مخفضة.

لذا يخشى كثير من المصريين أن يزيد القانون الجديد من معاناتهم في ظل غلاء السلع والأدوية التي زادت رسميا 40 بالمئة، وفق “هيئة الدواء”.

منظومة استثمارية

ووصفت “منى مينا”، الأمين العام السابق لنقابة الأطباء، القانون بأنه “كارثة فعلية”، مؤكدة أن “تحويل المنظومة الصحية الحكومية إلى منظومة استثمارية سيعصف بالمواطن البسيط”، بحسب موقع “زاوية ثالثة” 10 يونيو 2024.

وقالت إن القطاع الصحي في مصر مليء بالمشكلات، وهناك نقص في التمويل والمستلزمات الطبية، إضافة لضعف الأجور، لكن تمرير هذا القانون يعد نقطة تحول للأسوأ، آثارها ستكون كارثية وخطيرة على المواطنين.

وأكدت “مينا” أن هذا القانون “بمثابة إلغاء مجانية الرعاية الصحية في مصر، حتى وإن كانت المستشفيات أخيرا تقدم غالبية الخدمات مدفوعة”، و” قتل للمريض بدلًا من علاجه”

وحذرت من أن تحويل المنظومة الصحية الحكومية في مصر إلى منظومة استثمارية هدفها الأول الربح “سيعصف بالمواطن البسيط الذي لن يعد قادرا على نيل أبسط حقوقه المنصوص عليها بالدستور، وهي الحصول على رعاية صحية”

مركز “حلول للسياسات البديلة”، التابع للجامعة الأميركية بالقاهرة، أصر على وصف ما يجرى بأنه “بيع” للمستشفيات وإهمال لهذه الصناعة العامة.

وأكد أن تحويل المنشآت الطبية الحكومية لكيانات هادفة للربح “يهدد حق المواطنين غير القادرين في تلقي الرعاية الصحية”.
أشار في تقرير نشره 20 مايو 2024 لعدم تضمن القانون “شروطا واضحة لتسعير الخدمة الصحية” في حال نقل إدارة هذه المنشآت إلى القطاع الخاص، ما يترك الباب مفتوحا أمام المستثمر لرفع الأسعار من أجل تحقيق أعلى عائد.

كما لا يتضمن القانون “آليات تنفيذ” هذه الشراكة بين القطاع الخاص والعام، والمعمول بها في الدول الأخرى، وأهمها أن تكون قيمة الإنفاق الشخصي على العلاج في المستشفيات العامة أقل أو مساوية لما كان عليه الحال قبل طرح إدارتها للقطاع الخاص.

وهو ما قد يزيد العبء المالي على المواطنين، خاصة أن الإنفاق الشخصي يمثل بالفعل حوالي 60 بالمئة من إجمالي الإنفاق على الصحة.

كما أن القانون يغفل مصير الأطباء وأطقم التمريض ومختلف العاملين في تلك المنشآت العامة في حال قرر المستثمر الخاص تقليل العمالة من أجل زيادة العائد المالي.

حيث ينص على إلزام المستثمر باستمرار تشغيل نسبة لا تقل عن 25 بالمئة من العاملين في المنشأة الصحية، ما يعني أن من حقه ضمنا الاستغناء عن 75 بالمئة من العاملين بالمستشفيات.

هجرة الأطباء

ويرى “محمود فؤاد” المدير التنفيذي لجمعية “الحق في الدواء” أن هذا القانون سيؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين العاملين في القطاع الصحي من المصريين، وقد يزيد من أزمة هجرة الأطباء.

ويقول أطباء بمستشفيات حكومية لـ “الاستقلال” إن الحكومة بدأت بالفعل قبل إقرار هذا القانون التمهيد لإغراء المستثمرين بشراء المستشفيات وتأجيرها، برفع أسعار الخدمات بها.

وأكدوا أن الأمر بزيادة أسعار تذاكر المستشفيات إلى 10 جنيهات بعدما كانت مجانا، ثم تبعها قرار وزير الصحة صرف دواء واحد لكل مريض، وإلغاء بعض الوجبات الغذائية للمرضى، ورفع أسعار خدمات صحية في مستشفيات التأمين الصحي.. يأتي في إطار ترويجها للمستثمرين.

وتلتزم الدولة المصرية وفق الدستور، بـ “حق الرعاية الصحية لجميع المواطنين دون استثناء”، وفق نص المادة رقم 18 من دستور 2014 المعدل سنة 2019.

كما تلتزم بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية.

وتلتزم أيضا بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطى كل الأمراض، لكن كل هذه الالتزامات بدأ التحايل عليها عبر قرارات وقوانين تستهدف بيع “الخدمات الصحية” للمصريين حسبما قال السيسي “مفيش حاجة ببلاش”