الأعمال الصالحة في العشر الأواخر من رمضان كثيرة ومتنوعة، وهي باب واسع وميدان رحب، يجتهد فيه المرء بما يحب ويستطيع، ولكن من أحب الأعمال الصالحة في هذه الأيام الأعمال الخمسة التالية:
(1) الاعتكاف في المساجد
وهذا هو هدي النبي صلى الله علية وسلم حتى توفاه الله تعالى، فقد روى البخاري عن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين يومًا.
وقال الإمام الزهري (رحمه الله): عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.
(2) إحياء الليل بالقيام، وتشجيع الأهل على إحيائه
ذلك اتباعًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يحيى هذه الليالي، ويوقظ أهله فيها للصلاة والذكر، حرصًا على اغتنام هذه الليالي المباركة.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَه، وأحيي لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَه" (رواه البخاري ومسلم).
وهذا دليل على اجتهاده (صلى الله عليه وسلم) في العبادة، واعتزاله للنساء، ودعوته لأهله لعبادة الله تعالى متمثلا قول الله عزوجل: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ" (طه، الآية: 132).
وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: " أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٍ في الآخِرَةِ " (رواه البخاري).
(3) كثرة تلاوة القرآن الكريم بتدبر وخشوع
كان هناك رجل يعيش في مزرعة بإحدى الجبال، مع حفيده الصغير، وكان الجد يصحو كل يوم في الصباح الباكر ليجلس على مائدة المطبخ ليقرأ القرآن، وكان حفيده يتمنى أن يصبح مثله في كل شيء، لذا فقد كان حريصًا على أن يقلده في كل حركة يفعلها.
وذات يوم سأل الحفيد جده: "يا جدي، إنني أحاول أن أقرأ القرآن مثلما تفعل، ولكنني كلما حاولت أن أقرأه أجد أنني لا أفهم كثيرًا منه، وإذا فهمت منه شيئًا فإنني أنسى ما فهمته بمجرد أن أغلق المصحف، فما فائدة قراءة القرآن إذًا؟
كان الجد يضع بعض الفحم في المدفأة، فتلفت بهدوء وترك ما بيده، ثم قال: خُذ سلة الفحم الخالية هذه، واذهب بها إلى النهر، ثم ائتِني بها مليئة بالماء.
ففعل الولد كما طلب منه جده، ولكنه فوجىء بالماء كله يتسرب من السلة قبل أن يصل إلى البيت، فابتسم الجد قائلاً له: "ينبغي عليك أن تُسرع إلى البيت في المرة القادمة يا بُني".
فعاود الحفيد الكرَّة، وحاول أن يجري إلى البيت، ولكن الماء تسرب أيضًا في هذه المرة، فغضب الولد وقال لجده، إنه من المستحيل أن آتيك بسلة من الماء، والآن سأذهب وأحضر الدلو لكي أملؤه لك ماءً.
فقال الجد: "لا، أنا لم أطلب منك دلوًا من الماء، أنا طلبت سلة من الماء، يبدو أنك لم تبذل جهدًا كافيًا يا ولدي"، ثم خرج الجد مع حفيده ليُشرف بنفسه على تنفيذ عملية ملء السلة بالماء.
كان الحفيد موقنًا بأنها عملية مستحيلة؛ ولكنه أراد أن يُري جده بالتجربة العملية، فملأ السلة ماء، ثم جرى بأقصى سرعة إلى جده ليريه، وهو يلهث قائلاً: "أرأيت؟ لا فائدة!
فنظر الجد إليه قائلاً: " أتظن أنه لا فائدة مما فعلت؟! "تعال وانظر إلى السلة"؛ فنظر الولد إلى السلة، وأدرك – للمرة الأولى - أنها أصبحت مختلفة؛ لقد تحولت السلة المتسخة بسبب الفحم إلى سلة نظيفة تمامًا من الخارج والداخل، فلما رأى الجد الولد مندهشًا، قال له: "هذا بالضبط ما يحدث عندما تقرأ القرآن الكريم، قد لا تفهم بعضه، وقد تنسى ما فهمت أو حفظت من آياته، ولكنك حين تقرؤه سوف تتغير للأفضل من الداخل والخارج، تمامًا مثل هذه السلة.
قال تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان" (البقرة، الآية: 185) فهذا شهر القرآن، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يدارسه جبريل في كل يوم من أيام رمضان حتى يتم ما أنزل عليه من القرآن، وفي السنة التي توفي فيها قرأ القرآن على جبريل مرتين.
وقد أرشد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى فضل القرآن وتلاوته فقال " اقرأوا القرآن، فإن لكم بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول ألم حرف؛ ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (رواه الترمذي وإسناده صحيح).
وأخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن القرآن يحاج عن صاحبه يوم العرض الأكبر فقال: "يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما" (رواه مسلم).
(4) الإكثار من الدعاء
لأن هذه الليالي فيها ليلة القدر، فعن عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ: "قُولِى اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" (رواه الترمذي وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصححه الألباني).
وقد تكون ليلة القدر في ليلة السابع والعشرين وقد تكون في غيرها من ليالي الوتر من العشر الأواخر.
قال ابن رجب (رحمه الله): "العفو من أسماء الله تعالى، وهو يتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يُحبُ العفو؛ فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ " (رواه مسلم).
قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الناس عليه، وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحًا ولا حالًا ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر" (ابن رجب الحنبلي، لطائف المعارف، ص 230-231).
وعلى العموم فأنا وأنت يا أخي مطالبان ببذل الجهد في الطاعة والعبادة في رمضان كله، وفي العشر الأواخر أكثر، لنظفر بليلة القدر التي من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه.
غدا توفى النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
وقال إبراهيم بن سعد: كان أبي سعد بن إبراهيم إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، لم يفطر حتى يختم القرآن، وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة، وكان كثيرًا إذا أفطر يرسلني إلى مساكين يأكلون معه. (المرجع: أبو نعيم، حلية الأولياء: 3/ 170).
(5) تحرِّي ليلة القدر والاجتهاد فيها
كان الصالحون (ولا زالوا) يستعدُّون لاستقبال ليلة القدر استعدادًا خاصًا، فكان بعضهم يغتسل ويتطيب في ليلة السابع والعشرين، التي رجَّح بعض العلماء أنها ليلة القدر، فيقضونها بين صلاة، وذكر، وقيام، وقراءة قرآن، ودعاء، وتضرع لله تعالى، سائلينه أن يعتق رقابهم من النار.
قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ (رحمه الله): " وَيُسَنُّ زِيَادَةُ الاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ فِي الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَان".
وذكر ابن جرير (رحمه الله): " أن كثيرًا من السلف الصالح كانوا يغتسلون في كل ليلة من ليالي العشر، كان يفعل ذلك أيوب السختياني (رحمه الله)، وكان يفعله الإمام مالك (رحمه الله) فيما يرجح عنده أنه من ليالي القدر، فيغتسل ويتطيب ويلبس حلة لا يلبسها إلى العام القادم من شهر رمضان، وكان غيرهم يفعل مثل ذلك.
أنت فـي دار شـتات فتأهــب لشـتـاتـك
واجعل الدنيـا كيـوم صمته عن شـهواتـك
وليكن فطرك عند الله فـي يـوم وفـاتــك