يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد ، فيشكو هذا ويتذمر ، فكأنَّه حمل حملين ، ويضحك هذا ويغنِّي ، فكأنَّه ما حمل شيئًا. 
ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد ، فيتشاءم هذا ، ويخاف ، ويتصور الموت ، فيكون مع المرض على نفسه ، فلا ينجو منه ، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة ، فتسرع إليه، ويسرع إليها. 


ويُحكم على الرجلين بالموت ، فيجزع هذا ، ويفزع ، فيموت ألف مرة من قبل الممات ، ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره ، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُه.
وهذا (بسمارك) رجل الدم والحديد ، وعبقري الحرب والسِّلْم ، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه ، وساء تدبيره. 
وكان يومًا في حرب ، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة ، لم يصل إلى غيرها ، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتدُّ عليه فيها الضيق ويعظم الهمُّ ، وبقي أسبوعًا كاملًا من غير دخان ، صابرًا عنه أملًا بهذه الدخينة ، فلمَّا رأى ذلك ترك التدخين ، وانصرف عنه ، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة. 

وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري أصيب في أواخر عمره بتَوَهُّمِ أن في أمعائه ثعبانًا ، فراجع الأطباء ، وسأل الحكماء ، فكانوا يدارون الضحك حياءاً منه ، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود ، ولكن لا تقطنها الثعابين ، فلا يصدق ، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب ، بصير بالنفسيات ، قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلًا وأدخله المستراح ، وكان وضع له ثعبانًا فلما رآه أشرق وجهه ، ونشط جسمه ، وأحسَّ بالعافية ، ونزل يقفز قفزًا، وكان قد صعد متحاملًا على نفسه يلهث إعياءاً ، ويئنُّ ويتوجَّع ، ولم يمرض بعد ذلك أبدًا.
ما شفِي الشيخ لأنَّ ثعبانًا كان في بطنه ونَزَل ، بل لأن ثعبانًا كان في رأسه وطار، لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة ، وإن في النفس الإنسانية لَقُوًى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.

تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح ؛ ألَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضًا، خامل الجسد ، واهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب ، فرأى حيَّة تقبل عليه ، ولم يجد مَنْ يدفعها عنه ، فوثب من الفراش وثبًا ، كأنَّه لم يكن المريض الواهن الجسم ؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب ، قد هَدَّه الجوع والتعب ، لا يبتغي إلا كُرْسِيًّا يطرح نفسه عليه ، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره ، أو كتابًا مستعجلًا من الوزير يدعوه إليه ؛ ليرقي درجته ، فأحسَّ الخفة والشبع، وعدا عدوًا إلى المحطة ، أو إلى مقرِّ الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيًّا عذبًا ، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة ، والسواقي العكرة. 


يا أيها القراء : إنكم أغنياء ، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها ، زهدًا فيها، واحتقارًا لها.. 
يُصاب أحدكم بصداع أو مغص ، أو بوجع ضرس ، فيرى الدنيا سوداء مظلمة، فلماذا لم يرها لما كان صحيحًا بيضاء مشرقة؟ ويُحْمَى عن الطعام ويُمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم ، ويحسد من يأكلها ؛ فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟
لماذا لا تعرفون النِّعم إلا عند فقدها؟
لماذا يبكِ الشيخ على شبابه ، ولا يضحك الشاب لصباه؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا ، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي ، أو مُتَّشحةً بضباب المستقبل؟
كلٌّ يبكي ماضيه ، ويحنُّ إليه ، فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا؟


أيها السادة والسيدات: إنا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا، لما نَظَر مِن شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه، ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنَّى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيًّا
فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟
من يرضى منكم أن يتنازل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟
أما تعرفون قصة الرجل الذي ضلَّ في الصحراء، وكاد يهلك جوعًا وعطشًا، لما رأى غدير ماء، وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمرًا أو خبزًا يابسًا ، فلما رأى ما فيه ، ارتدَّ يأسًا ، وسقط إعياءً ، لقد رآه مملوءًا بالذهب.

 
وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر، فزعموا، أنه سأل ربَّه أن يحوِّل كلَّ ما مسَّته يده ذهبًا ، ومسَّ الحجر فصار ذهبًا ؛ فكاد يجنُّ مِن فرحته ؛ لاستجابة دعوته ، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا ، وعمد إلى طعامه ؛ ليأكل ، فمسَّ الطعام ، فصار ذهبًا وبقي جائعًا ، وأقبلت بنته تواسيه ، فعانقها فصارت ذهبًا ، فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته، وأن يبعد عنه الذهب
وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة ، فانصفق عليه بابها ، فمات غريقًا في بحر من الذهب. 


يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا؟ أليس البصر من ذهب ، والصحة من ذهب ، والوقت من ذهب ؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟

كلَّفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به ، والوقت يمرُّ، أيامه ساعات ، وساعاته دقائق ، لا أشعر بها ، ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية ، حتى إذا دنى الموعد ولم يبق إلا يوم واحد ، أقبلت على الوقت أنتفع به ، فكانت الدقيقة ساعة ، والساعة يومًا ، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرًا وتبرًا، واستفدت من كلِّ لحظة حتى لقد كتبت أكثره في محطة ( باب اللوق ) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس، وتدافع الركاب ، فكانت لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلِّها ، وأسفت على أمثالها، فلو أنِّي فكرت كلَّما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه ، وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرِّقة أجزاؤها لربحت شيئًا كثيرًا. 


ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلَّى في القطار بالنظر في كتاب قواعد التحديث للإمام القاسمي ، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب. 

والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائمًا ، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئًا من العلم فأَلَّف الحاشية. 
والسَّرَخْسي أَمْلَى وهو محبوس في الجبِّ، كتابه (المبسوط) أَجَلَّ كتب الفقه في الدنيا.


وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت ، وهل يُضَيِّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى ، انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنَّه لو قرأ مثله لا أقول كلَّ ليلة، بل كلَّ أسبوع مرة لكان عَلَّامَة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألَّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي، والجاحظ، بل خذوا كتابًا واحدًا كـ(نهاية الأرب)، أو (لسان العرب)، وانظروا، هل يستطيع واحد منكم أن يصبر على قراءته كله، ونسخه مرة واحدة بخطِّه، فضلًا عن تأليف مثله من عنده؟


والذهن البشري، أليس ثروة ؟ أما له ثروة ؟ أما له ثمن ؟ فلماذا نشقى بالجنون ، ولا نسعد بالعقول؟ لماذا لا نمكِّن للذهن أن يعمل ، ولو عمل لجاء بالمدهشات ؟
لا أذكر الفلاسفة والمخترعين ، ولكن أذكِّركم بشيء قريب منكم ، سهل عليكم هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لمَّا امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطئها وصوابها ، والشافعي لمَّا كتب مجلس مالك بريقه على كفه ، وأعاده من حفظه ، والمعرِّي لما سَمِع أرْمَنِيَّيْنِ يتحاسبان بِلُغَتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه ، والأصمعي وحمَّاد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار، والمئات من أمثال هؤلاء فتعجبون ، ولو فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون
انظروا كم يحفظ كلٌّ منكم من أسماء الناس ، والبلدان ، والصحف ، والمجلات ، والأغاني ، والنكات ، والمطاعم ، والمشارب ، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل من ذهنه ما يمرُّ به كلَّ يوم من المقروءات ، والمرئيات ، والمسموعات ؛ فلو وضع مكان هذا الباطل علمًا خالصًا، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت. 


أعرف نادلًا كان في (قهوة فاروق) في الشام من عشرين سنة اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة- وهم مئات- يسألهم ماذا يطلبون: قهوة، أو شايًا، أو هاضومًا كازوزة أو ليمونًا) والقهوة حلوة ومرة، والشاي أحمر وأخضر، والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة، ويردد هذه الطلبات جهرًا في نَفَسٍ واحد، ثم يجيء بها، فما يخرم مما طلب أحد حرفًا. 


فيا سادة :- إن الصحة والوقت والعقل ، كلُّ ذلك مال ، وكلُّ ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد.
وملاك الأمر كلِّه ورأسه الإيمان ، الإيمان يُشبع الجائع ، ويُدفئ المقرور، ويُغني الفقير، ويُسَلِّي المحزون ، ويُقوِّي الضعيف ، ويُسَخِّي الشحيح ، ويجعل للإنسان من وحشته أنسًا ، ومن خيبته نُجحًا
وأن تنظر إلى من هو دونك ، فإنك مهما قَلَّ مُرَتَّبك ، وساءت حالك أحسن من آلاف البشر ممن لا يقلُّ عنك فهمًا وعلمًا، وحسبًا ونسبًا.


وأنت أحسن عيشة من عبد الملك بن مروان ، وهارون الرشيد ، وقد كانا مَلِكَي الأرض.
فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل ، فلم يكن يجد طبيبًا يحشوها ، ويلبسها الذهب ، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب. 
وكان الرشيد يسهر على الشموع ، ويركب الدوابَّ والمحامل ، وأنت تسهر على الكهرباء ، وتركب السيارة ، وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر، وأنت ترحل في أيام أو ساعات
فيا أيها القراء: إنكم سعداء ولكن لا تدرون ، سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها ، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها...


سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم ، سعداء إن كانت أفكاركم دائمًا مع الله ، فشكرتم كل نعمة ، وصبرتم على كل بَلِيَّة ، فكنتم رابحين في الحالين ، ناجحين في الحياتين.

..................

نشر عام 1948
من كتاب صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي، دار المنارة ، ص17