د. فتحى أبو الورد
لعل الكثيرين يجدون متعة وتسلية ومجالا للترفيه فى أوقات الخمول والتعب فى دراسة تاريخ الأدب ، وتذوق الجميل من النظم الشعرى ، خاصة عن أحوال المحبين ، وسلوك العاشقين ، وأشعارهم فى الغزل والحب ، لأمثال عنترة وعبلة ، ومجنون ليلى ، وجميل بثينة ، وكثير عزة ، وغيرهم ، ولعل أشهر ماقاله قيس المجنون تعبيرا عن حبه لليلى ما يمثل حالة من الهيام العارم :
أمر على الديار ديار ليلــى **** أقبل ذا الجدارا وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبى **** ولكن حب من سكن الديارا
ولكنى أقف مع متعة من نوع آخر ، ودراسة فى تخصص ماتع ، وأجد سلوى أخاذة فى متابعة سيرة ، يحيطها سمو العواطف ، وجلال المشاهد ، وصدق المشاعر ، ورفعة السلوك ، فلا أجد أرفع ولا أجل من حب أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم له ، فى ملحمة من الحب والوفاء لم تعرف البشرية نظيرا لها , حتى أن حبه صلى الله عليه وسلم يطغى على حب الأهل والولد والنفس ، وحيث الشوق إليه صلى الله عليه إذا فارقه صاحبه ؛ فلا يطفئ لوعة هذا الشوق إلا العودة إليه مجددا للتمتع برؤية محياه الباسم .
تحكى السيدة عائشة - رضى الله عنها – أنه : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، والله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } النساء: 69 .المعجم الأوسط للطبرانى .
وقد كان الصحابة لشدة حبهم للنبى صلى الله عليه وسلم يحاكون حياته ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ويتمثلون أفعاله اقتداء وتأسيا باستثناء خصوصياته صلى الله عليه وسلم ، مثل إباحة الزواج بأكثر من أربع ، والوصال فى الصوم ، ووجوب الضحى والوتر والتهجد ، وأن ما تركه من ماله صدقة لا ميراث .
حتى إن بعضهم كان يتتبع آثاره أثرا أثرا ، كل مكان صلى فيه ، أو استراح أو جلس عنده ، فقد نزل صلى الله عليه وسلم تحت شجرة ؛ فكان ابن عمر يتعاهدها فيصب فى أصلها الماء لئلا تيبس ، وكان يعترض براحلته كل طريق مر بها رسول الله يتحرى أن تقع أخفافها على مواقع أخفاف ناقة النبى صلى الله عليه وسلم .
يحكى نافع، عن ابن عمر، أنه كان في طريق مكة يأخذ برأس راحلته يثنيها ويقول:" لعل خفا يقع على خف" يعني خف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبى نعيم الأصبهانى .
ولشدة حبه وتمسكه بآثار النبى صلى الله عليه وسلم روى أبو نعيم بسنده أن ابن عمر كان إذا رآه أحد ظن أن به شيئا من تتبعه آثار النبي صلى الله عليه وسلم .
بل أكثر من ذلك لقد صرح نافع مولاه فقال: " لو نظرت إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنه إذا اتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: هذا مجنون " .
ولم يكن هذا شأن ابن عمر وحده ، بل كان شأن كثير من الصحابة وإن تفاوتت درجة التعبير عن حبهم للنبى صلى الله عليه وسلم وتأسيهم به ، فقد روى الترمذى بسنده عن أبى طالوت قال : دخلت على أنس بن مالك ، وهو يأكل القرع ، وهو يقول : يالك من شجرة ، ما أحبك إلا لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك .
ولما أسر زيد بن الدثنة ، وقدمه مشركو مكة للقتل ، قال له أبو سفيان - قبل إسلامه - أمام رهط من قريش : نشدتك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن بمكانك يضرب عنقه، وأنك في أهلك ؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، ثم قتلوه .
فى مطالعة هذه السيرة العطرة أجد راحتى ومتعتى ، وفى دراسة هذه المشاهد أجدد نشاطى وهمتى ، وفى معايشة هذه المواقف أطرد السآمة عن نفسى وقلبى ، وفى تأملها تتجدد وتتجذر معانى المحبة لصاحب الرسالة الأكرم صلى الله عليه وسلم.