بقلم: د. رائد فتحي
 
لا ينكِر أحد المكانة العاليَةَ الّتي يتبوؤها المَسجد الأقصى المُبارك في الإسلام، حتى المُستشرقون أنفسهم، لم يجدوا بَديلاً، إلا الإقرار بالمكانة المُقدّسة التي تحظى بها القُدس والمسجد الأقصى المُبارك لدى المُسلمين.

إن هذه المكانة ليست جديدة ولا حَديثة؛ فقدَاسة المسجد الأقصى المُبارك ثابتة راسِخة منذ رِحلة الإسراء والمعراج، تعاقب على تأكيدِها والكِتابةِ فيها المُسلمون على مرّ الأجيال. وما دام الأمر كذلك، فإنّ السؤال الذي يُسأل هو: لماذا هذا التّعاظُم في الاهتِمام الإسلاميّ والعالميّ للمسجد الأقصى المُبارك في الفترة الأخيرَةِ، وما مدى إمكانيّة الاستِفادة من هذا الالتِفاف حول القُدس والمَسجد الأقصى المُبارك في الصّراع مع الاحتِلال؟

هُناك أكثر من عامِل أثّر في بروز مكانة المَسجِد الأقصى المُبارك وحضورِه في الذّهنيّة العربيّة والإسلاميّة عامّة، وفي الوُجدان الفلسطينيّ على سبيل الخُصوص:

– المدّ الإسلاميّ الآخِذ بالتّنامي في العالمين العربيّ والإسلاميّ، أدى إلى بروزِ و إبراز مَكانَةِ القُدس والمسجد الأقصى المُبارك في الوعيِ الإسلاميّ، حيثُ بَحثَ الشّباب المُسلم عن قضيّةٍ إسلاميّةٍ يعيشون من أجلِها، ويوجّهوا بوصلَة حياتِهم نَحوها، فكانت قضية احِتلالِ فلسطين والقُدس والمسجد الأقصى المُبارك هي هذه القضيّة الّتي يمكن للأمّة أن تتعيش من أجلِها.

– الضّربات التّي تعرّض لها المشروع الإسلامي في سياقاتِه الوطنيّةِ في كثيرٍ من دول الرّبيع العربيّ خاصّة، وباقي الدّول عامّةً، خلَقت جيلاً زاهِدًا في قَضاياه الوَطنيّةِ باحِثًا عن قضيّة تَكونُ على مُستوى الأُمّة يَنشَغِلُ بِها ويَعمل من أجلِها، وفي سبيلِها؛ لأنَّ القضايا الإسلاميّة في سياقِها القُطريّ أو الوَطنيّ مَبنيّة على المُحاججةِ والمُماحكة، بينما قضية بِحجم القُدس والمَسجد الأقصى المُبارك مبنيّة على التَسليم والقَبول، بل والتّضحية.

– تَبنّي الحركة الإسلاميّة في الدّاخل الفلسطينيّ لِقضيّة القُدس والمَسجد الأقصى المُبارك كَمشروع له حقّ الصّدارة، ووجود شَخصيّة إسلاميّة ووطنيّة كبيرة بِحجم الشّيخ رائد صلاح، رأسِ هذه القَضيّة، ساهم في إعطائِها أبعادًا إقليميّةً وعالميّةً، وساهَم في تَبنيّ الكثير من الحَركاتِ الإسلاميّة العالميّةِ لهذا المَشروع.

– تَصاعُد التّيار الصّهيونيّ المُتديّن في دولة الاحِتلال، بل مُشارَكته في تشكيل حكومة اليمين المُتطرّف، وإطلاق يد المُستوطنين العنصريينَ في القُدس والمَسجدِ الأقصى المُبارك، أسهم في تأجيج مَشاعر الغضب لدى المُسلمين في العالم.

وهذا يَعني أن حكومة اليمين المُتطرّف تعاملت بِمنتهى الغباءِ؛ إذ لو أنّها كانت تملك القليل من الوعيِ والإدراك الطبيعة المَرحلَةِ لانتهت عن هذه الاستفزازات لِمَشاعر المُسلمين في العالم. فدول المَنطقة في انشغال وانغِماسٍ كبيرٍ في قضاياها الدّاخليّة، لا تَكاد تَخلو دولةٌ من ذلكَ: مصر، سوريا، ليبيا، العراق، اليمن، لُبنان وحتّى الأردن كُلّها مُنشغلة بِقضايا داخلية، فما عُرفَ يومًا باسم دول الطّوق، لم تعُد تُشكّل طوقًا، لأنّها مُطوّقَةٌ بِهمومِها الدّاخليّةِ، ولو أنّ الاحتِلالَ أدرَكَ هذا الواقِع ولم يستفزّ مَشاعر المُسلمين في القُدس، لنَسي النّاس القَضيّة الفلسطينيّة في خِضم هذه التَناقُضاتِ أو كادوا، إلا أنّ عُنصريّة هذا الاحتِلال، ويمينيّة هذه الحكومة المُتطرّفة أبَت إلا استفزاز مَشاعر المُسلمين في العالم، وذلك كِبرًا وتبجُّحًا وتَحدّيًا للعقيدة الإسلاميّة، إذ راهنت هذه الحكومة على انشغال المُسلمين الدّاخلي.

– حَسمُ قَضيّة السّيادة على المَسجد الأقصى المُبارك، أسهم بطريقة ما، في إعادة هذه القضيّة إلى سُلّم الأحداث، فبعد أن كانت سُلطتان تتنازعان السّيادة على القُدس والمسجد الأقصى المُبارك، وهما: المملكة الأردنيّة والسُّلطة الفلسطينيّة، صارَت المملكة الأردنيّة صاحبة السّيادَةِ على القُدس بِموافقةٍ فلسطينيّةٍ رسميّةٍ، عربيّةٍ، وإسرائيليّةٍ. الأمر الّذي أعطى المملكة الأردنيّةَ حُضورًا في هذا الملف، وما جعلَها قويّةً في هذا المَلف، اتّفاقُ وادي عربةَ، إذ من المَعلومِ أن دولة الاحتِلال تعتبرُ اتفاقيّة وادي عربة انجازًا استراتيجيًّا لا تقبلُ أن تُخاطِرَ به أبدًا، ولو كانَ الثّمن التّراجُع في بعض القضايا المُتعلّقةِ بالقُدس والمَسجِدِ الأقصى المُبارك.

– وأمّا أكثرُ قضيّةٍ تأثيرًا في تدويل وتثوير قضيّة المَسجِدِ الأقصى المُبارَكِ، فهيَ بروزُ الإعلامُ الفَرديّ، أو إن شئتَ فعبّر عنه بوسائل التّواصُل الاجتِماعيّ: فَبَعد أنْ كانت جِهات مُحدّدة هي الّتي تَنشُرُ الخبر أو المعلومة صارَ كُلُّ إنسانٍ قادِرًا على نَشرِ الخَبَرِ والمعلومة.

وثمّة فوارق كبيرة بينَ النّشر على المُستوى الفرديّ والنّشر على المُستوى الإعلاميّ أو الصُّحفيّ، أهمّها أنّ الإعلام الفرديّ لا يَخضع لسُلطانِ الرّقيب، بل إنّ الفردَ أصلاً لا يعرفُ الرّقيب، والأمر الثّاني هو أنّ الإعلامَ والصّحافة مُلتَزمَة بِدَرجة من الحِرفية والتّوثّق في الخَبر والجودة في الصّورة، بينما الفَردُ غير ملتزمٍ بِهذه المعايير، الأمر الّذي جعل الكثير من الصّور ومقاطع الفيديو القادِمة من القُدس وما كان لها أن تنتشر في الإعلامِ والصّحافة الرّسمية تنتشرُ بِحضور وكثافةٍ كبيرة عبر مواقع التّواصُل الاجتماعي.

ومن هذه الفوارقِ أيضًا أن الفردَ قد استفادَ من بعض تطبيقات الهواتف منها (الواتس أب) و (الفايبر) وغيرها، في نقل الصّورة أو الفيديو من مدينة القُدس. ومن ذلك أنّ الفرد رأى الصُّورة مُعبّرة عمّا في داخِلِه من كلامٍ، فلا يَحتاجُ أن يكونَ صحفيًّا أو مثقّفا ليكون متابَعًا، وإنّما يكفي أن يكونَ الأول في نقل الصّورة المقدسيّة أو مقطع الفيديو.

القُدس والإعلام الفرديّ
بِناءً على ذلِك يمكن القول: إنّ الإعلام الفرديّ قد لعِبَ دورًا بارزًا، ربّما هو الأبرزُ في مسألةِ القُدس والمَسجد الأقصى المُبارك، فلقد صارت صورَةٌ تؤثّر ألف مرّة أكثرُ من ألفِ خُطبةٍ أو مُحاضرةٍ، بل إنّ الخُطب والمُحاضرات باتت تُقسّم في الإعلام الفرديّ إلى مَقاطِعَ فيديو صغيرة مَشفوعةً بالصّور ومَقاطِع الفيديو، ولولا ذلِكَ لما كانت ذات أثر.

أما والأمر كذلكَ، فإنَّ الاحتِلال، لا يملِكُ طريقًا للوقوفِ في وجهِ هذا الصّعودِ الجارِفِ لِمكانة القُدس في قلوب الفلسطينيين والمُسلمينَ عامّةً؛ لأنَّ توزيع الصّور ومقاطِع الفيديو المُؤثّرة غدا من أبسط الأمور الّتي يتسابَق عليها الشّبابُ، لذلك ظهرت – في الفترة الأخيرة – بعضُ التعليقات من متابعين لموضوع القُدس والأقصى في العالم العربيّ، تعيبُ على بعضِ المُصوّرين لمَقاطِعِ الفيديو كيف يَنشغل بِالتّصوير بينما مقدسيّةٌ تٌسحب على بلاط المَسجِد الأقصى المُبارك؟ قد يَكون هذا الاستِدراكُ صحيحًا، لكِن هذا الذّي انشَغل بتوثيقِ اللّحظَةِ فَهم بفطرة المُناضِلِ أنّ انتِصاره لهذه الأخت لن يُخلّصها من براثِن هذا الاحِتلال وهؤلاء الغوغائيينَ، لكِنه يمكن أن ينتصر لهذه الأخت عندما يدوّل قضيّتها، ويجعلها محلّ اهتِمامٍ لدى الفلسطينيينَ والمُسلمينَ في كُلّ مكان.

بل هو يعلم أنّ الأخت ذاتها، لو خُيّرت بين أن تُخلّص من الحُكم الجائرِ عليها وبينَ أن ترى صورَها وقد أثارَت الرّأي العامِ، كانت ستختار إثارة المُسلمين والرّأي العام، وأن تكون أيقونةً في الصبِر وأسطورَةً مقدسيّةً.

إنَّ الاحتِلال نفسه كان أوّل المُنتبهين إلى خطر الإعلام الفردي، وإلى أنّه أشدّ تأجيجًا لمشاعر من الإعلام الرّسميّ ذاته، ولذلك فإنّنا ومن خلالِ مُشاهداتنا ومتابَعاتنا، نلحظُ أنّ جنودَ الاحِتلالَ باتوا يستهدِفونَ كُلّ فرد يُخرج جهازَ هاتفه للتّصوير؛ لأنّ الاحتلال يعلم آثارَ هذه الصّورَةِ حتّى لو لم تكن صورةً حِرَفيّةٍ، ويعلَم أنّ أثرَها قَد يكونُ غضبًا جماهيريًّا، بل قَد يكونُ إشعال انتفاضةٍ أو تعزيزها كما حصلَ مع صورة الشّهيد محمّد الدُّرة.

ولأنّ دولة الاحتِلال باتت تشعُر بخطر الًصّورة، فإنّها ألزَمت بعض مواقع الفيديو مثل موقع (اليوتيوب) بأنْ تحذف بعض مقاطع الفيديو لاعتداءات جنود الاحتلال على الفلسطينيين والمقدسيين، بل إن شركة (فيسبوك) قد حذفت بعض الحالات الّتي كتبها بعض الشّباب المقدسي مصحوبة بصورٍ للاحتلال في القُدس والمَسجد الأقصى المُباركِ.

وعليه، فينبغي للعاملين للقُدس والمَسجِد الأقصى المُباركِ أن يُسارِعوا في تعزيزِ سُلطانِ الإعلامِ الفرديّ، وذلِكَ بالاهتِمامِ، بهذه الصّور ومقاطِع الفيديو القادِمَة من المسجد الأقصى المُبارك، والعمل على تبويبها وإتاحَتها للنّاس جميعًا وللباحثين في موضوع القُدس والمَسجد الأقصى، وعليه اقترِح إنشاءَ موقِعٍ مختصٍّ برفع مقاطع الفيديو المقدسيّة القادمة من القدس والمسجد الأقصى المُبارك، ويتمّ أرشفتها بالزّمان والمكان الدّقيق، ولا يُكتفي بقولِ: البلدة القديمة، وإنما يُذكر المكان الدّقيق؛ لأنّ هذا سيُصبِحُ تاريخًا، بالإضافَةِ إلى كونِه مَرجِعًا مُباشِرًا يوميًّا للقُدس وفلسطين، ويُمكِنُ أن يُسمّى هذا الموقعُ، مثلاً: (قدس تيوب)، (أقصى تيوب)، أو أيّ شيءٍ آخر، وتُسهّل إمكانيّة المُشاركة في رفع مقاطِع الفيديو إلى هذا الموقع، ويُعطى للفرد خاصيّة واسعةً في اختيار آليّةِ رفعِهِ وتصنيفِه في الموقعِ.