بقلم: أحمدالحارون
رسالتي إليك يا بُني ربما تكونُ الأولى وفي ذاتِ الوقت الأخيرة، فلا أدري .. قد تسعفني الكلمات ولا يمهلني القدر،
هل ســــ تقرأ كلماتي فتسمعها؟ أم تصم آذانك وتولي عنها مدبراً؟ اعلم يا صغيري أني أكتبُ لك الآن لتفهمَ بعد سنين، ولعلك حين تكبر لا تجدني بجوارك، فإن استوحشتَ طول الدربِ وقلة السالكين فاذكرني، واعلم أن روحي معك تعينك وترقبك، فتسعد بطيبِ فِعالكَ، وتحزن لسوءِ مآلك، وثق يا بني أنكَ مشيئة الله في هذا الكون، فما كان في ذهننا أنك ستقبل على الدنيا، وكنا نتفادى مجيئك أنا وأمك قدر المستطاع، فقد عزمنا النية أن نكتفي بأختك لخمس سنين، ربما لرعايتها على الوجه الأفضل، وأن تأخذ حقها من الاهتمام كما حلمنا، لكن.. شاءت إرادة الله أن تأتي، فاستسلمنا لما ليس منه بد، وقلنا لعل الخير يكمن في غير إرادتنا، وليكن في فكرك أني كنت عن الزواج عازفاً، وما تزوجت إلا خشية أن يحاسبني الله على قدرتي أن أعفَّ مسلمة وتخاذلت، وكنتُ أفرُّ من أن أكون سبباً في قدوم أناس للحياة يعانون في بلدٍ همها وأد الحريات، وتكميم الأفواه، وسرقة الفقير والعطف على اللصوص والقتلة...
وأنا الذي في قناعتي أن من يفر من الزواج وهو قادر عليه كمن يفر من الجهاد سواءً بسواءٍ، وأن الأرامل والعوانس هما حقيقة ذنوبُ البعض إن لم يكونا كبائرهم، وقلت في نفسي: لعل الله يرزقني بولدٍ يكون سبباً في دخول الجنة، فحين أكتب إليك فاسمع وكأني أحادثك، ولا تصم أذنيك حين أناديك وأنا في عالم الغيب، ففي مواطن الضعف كن قويا بالله ثم بي، وبدلاً من أن تكون بعض ذنوبي فزد في قليل حسناتي. واعلم يا ماجد أن الذي هو أبوك الآن هو بقايا جسد هدَّهُ طول المسير، وأضناه الخوف من العاقبة، وأنهكه الخوف من سوء المصير، وأن الانقلاب قد طحن أباك كما تطحن الرَّحى الحَبَّ بين فكيها، غداً أو بعد غدٍ.. ستميل شمسُ أبيك إلى مغربها، وستأتي عليك ليلة لا قمر فيها، وستشعر بصقيع الدنيا في عروقك والجميع حولك، ليلة سينهار فيها ما تبقى من أبيك، فحافظ على الرجل الصغير داخلك، وحين أبيتُ ليلتي الأخيرة مُسجى إن قُدِرَ لي حيث كان جَدُّك، فكن بجواري داعيا لا باكياً، واعلم يا بني أنك لن تستطيع أن تشاركهم حملَ جثماني، وإن تظاهرت بذلك، فلن تقوى ، لكن ساعتها ستتحول كل حواسك إلى آذان وعيون، فتراهم وهم يهدهدون المسير، ودموع العالم في أعماق أحداقكَ، وأحزان الدنيا بقلبك تتقلبُ كجمر الرمضاء، وقريباً يا وحيدي لن تراني، فقد نسجتْ أيدي الردى أكفاني، وحتماً وعاجلا وليس آجلاً ستختلط أحزان الفِراق كلهبِ الشموع، وستُمسحُ الوجناتُ بمناديل الدموع، وينبتُ اليُتم لديك بأديم الضلوع، فجميعنا أماناتٌ .. وحتماً لله الرجوع، وحين يأخذني الرفاق في الظهيرة إلى دار البقاء، فحينها يا بني استقوِ بالله واسترجع، واصبر ففي الصبر راحة الحائر، وفي الرضا هدوءُ بالِ المضطرب،
واستحضر لطف الله لك في الأخذ كما العطاء، فعطاء الله عطاء وأخذه عطاء، وإن ربي لطيف لما يشاء. أعلمُ يا بني أنك ستقارن نفسك بغيرك، وربما تحملُ على أبيك أن تركك دون أصحابك، وكان في وسعه أن يترككَ على خيرٍ من ذلك، نعم.. كان بودي أن أضع بين يديك كنوز العالم، وسواري كسرى وقيصر، ومالاً يغنيك عن ذُلِّ السؤال، لكن يا ولدي هذا رزقي الذي ساقه الله لي، وأعانني عليه، وما تأففت ولا تبرمت، ولا سألتُ غير خالقي، ويقيني .. بأن لا حيلة في الرزق، ولا شفاعة في الموت، وكنتُ أمهد لك دائما بأن ميراثك مني هو العلمُ والأخلاقُ والكتبُ، وكلمةً كتبتها ربما تعينك على صخب الحياة، وأنا يا بُني لا أستعطفك، ولا أرجو منك لِين قلبك، ولا أن ترق لحالي، نعم رفضت السفر وجمع المال لأظلَّ بجوارك، وتركتُ من الفرص الكثير خشيةً عليك وعلى أسرتنا الصغيرة، فيقيني أن السعادة ليست في المال وجمعه، ولكنها في قلب المؤمن القانع برزقه، فالأرزاق يا بني تكفي كلَّ الناس، لكن الطمع لا يكفي إلا القليل، وعشتُ أردد وأضع نصب عيني " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا"، ففي هذه الآية، ومعها، أدركتُ.. وتمنيتُ أن أحقق التقوى لنفسي ثم لكَ، وأن أعيش حياتي على الوجه الذي يرضيني، فحين تشكو الفقر يا بني لا تلجأ إلا لخالقك، وإن لم تملك إلا القليل فتصدق به لأقرب محتاج، وسيؤتيك الله من حيثُ لا تحتسب، نعم كان رزقي قليلاً، لكن حرصتُ أن يكون من حلالٍ، وكم كنتُ أغبط نفسي حين يغشاني الرضا بينكم، وأشفق على من ترك أطفاله لأجل المال قائلاً: مسكين هو، هو الفقير وإن مَلَكَ، وأنا الغني مع الْمَلِكِ. حين تشكو الفقر يا بني تذكر كمْ رتلتُ على رأسك آياتِ الرقيا لأرقيك، وكم قرأت المعوذتين لأُعيذك، وكم سهرت بجوارك وأنت تلعب، وكم شاركتك اللعبَ والناس نيام، وكم جهزتُ لك طعاما تشتهيه قبل الفجر، وكم جلست بجوارك أعلمك القرآن لتحفظه، وكان يقيني أني أعلمك القرآن ليحفظك، فاحرص على أن يراك الله حيث أمرك، وإياك أن يراك حيثُ نهاك، وان اختلط عليك أمر فقل: لو رآني أبي وأنا على هذا النحو أكان يرضيه؟ فإن أجبت بنعم فأكمل، وإن أكملتَ بلا أو ترددت فانسحبْ على عجلٍ، وها أنا أستجمع مخاض الكلماتِ من رحِم الشيخوخة التي تدبُّ في أوصالي لأقص عليك بعض الذي تجهله عني. وأقسم لك يا بني ما ذاق قلبي في الهوى طعماً مثل حسن الثناء على خُلقك وحيائك، ولا أنتشت روحي طرباً إلا لمُزاحك، وما لهوتُ وما ضحكتُ والتعبُ يغشاني إلا معك ، ربما تتذكر بعض أحداث الطفولة، وقد تختلط عليك بعض المشاهد، وحتماً ســــ تسترجع بعضَ ما كان بيني وبينكَ، وفي خلوتك ذات مساء ستذبل الورود بغرفتك، وتغادر البسمة جدران بيتنا، وتسهر دون أبيك، فتعلو الكآبة مُحياكَ وجدران الغرفة، فساعتها ...ستقلِّبُ الكتبَ وتبحث عن أوراق كتبتها هنا وهناك، وستقضي الليل الطويل تبحث في النت عن سطر من كلماتي، وستنظر إلى صورتي تحادثها وصقيع اليُتم يضرب في أحشائك، ساعتها ...سترتجف يداك وتتنهد تنهيدة الحزن الطويلة، وحين تنهمر دموعك يا بني تذكر كم أحببتك!! وتمنيتك مثالاً للرجولة والنخوة والإباء والكرامة والإيثار، واجعل يا بني من موتي حقيقة الدنيا العارية، وتذكر أنكَ ستشرب من ذاتِ الكأس، فلا تفرح بالدنيا إن بسطت لك، ولا تحزن كثيرا إن أدبرت عنك. نعم يا ماجد.. سميتك ماجدا إرضاءً لجدتك علَّ الله يجعل فيك بعض السلوى عن فقدنا لعمِّكَ الكبير الذي رحل قبل مجيئك بكثير، وسأرحل مثله وأختفي، سيختفي من عالمك الرجل الذي كنتَ تحبه وتهابه في ذات الوقت، الرجل الذي طالما عاش يوزع البسمة على الجميع دون أن يعرفها، الرجل الذي تعبت قدماه من السير حافياً في الصغر في كلِّ دروبِ القرية وحقولها، الرجل الذي حلم أن يمارس هوايته في لعب الكرة صغيرا ولديه حذاءٌ يحمي شكاية الأقدام وتقرحاتها، الرجل الذي أرهقته وأتعبته السنوات العجاف في الغربة، وفي أحضان الوطن، الرجل الذي ما هان عليك سخطه، الذي تألم لألمك، وبكى لبكائك، وخاف عليك أكثر من خوفك على نفسك، الرجل الذي أحبك قبل أن تأتي، وانتظرك بأفراح وأهازيج العالم كله.. ذاك الرجل الذي سيحطم الموتُ قلبه بكل سهولة ودون عناء، ولا يترك له فرحة أن يراك غضّاً فتياً. وثق يا بني أن السعيد في دنيانا الفانية هو من يتقاسم الخير والحبَّ مع الناس، السعيدُ من يتقاسمُ الخيرَ والفضيلة مع الناس فتتضاعف سعادته، والشقي هو الذي يتمحور حول ذاته وأنانيته.. الشقيُّ يحتكر الخير ويبخل به، فيختنق به ثم يموت في صدره ، فمن عاش لنفسه يا بني إنه لعَمري حياته قصيرة، وتنتهي بموته، لكن من عاش لغيره يظلُّ حياً وإن مات، فاجعل قلبك مليئاً بالحبِّ والعفو والتسامح، فمعاني الخير جميعهاكلما أخذنا منها تزيد، أما الأشقياء فهم الذين امتلأت قلوبهم حقداً ونقمة وكراهية، وتذكر قول الصحابي الذي بُشِرَ بالجنة ومقولته الرائعة"غير أني أبيتُ وليس في قلبي حقدٌ لأحد". وإن سألك أحدٌ عني قلْ لهم : كان أبي مسكيناً ويحب المساكين، وأني مارستُ أصعب المهن، وهي مهنة العزلة وحمل هموم المحتاج مع قلة ذات اليد، وطالما نظر إليَّ الكثير نظرة أني ذو مالٍ من فرط عفتي واستغنائي وحيائي، وكنت ألزم البيت كثيرا خشية أن يسألني محتاج وأنا لا أملك، ومن فرط حرصي يا بني عشقتُ الليل، ففيه آنس بخالقي وعالمي الذي أفتقده في الواقع، وعشقت الفجر منذ صغري، وعشقته بعد مجيئك لأنه الوقت الذي أقبلت فيه على الدنيا، عشقتُ الصمتَ والسهر والشكوى لله والتأمل في ملكوته. ازهد في الدنيا يا ماجد تأتيك مُرغمة، واقنع يا بني برزقك، ففي القناعة كل الرضا، وكل يوم يمر عليك وأنت بعافية في دينك يستوجبُ منك كثير شكر، نافس العلماء وأهل الدين والورع ومن يذكرك بالآخرة، واحجز لنفسك مكاناً بينهم، فإن لم تستطع فقريباً منهم، اجعل حبك للصالحين عبادة وتقرب، وصادق من يذكرك بتقصيرك في جنب الله والآخرة، وابعد عن صديق السوء ما استطعت إلا في نصحٍ أو قولِ حقٍّ، واعلم يا بني أخيرا أني حاولت أن أكون صالحاً فربما ينالك فضل... و"كان أبوهما صالحا"، وآخر كلماتي إليك يا بُني: إن لم تستطع أن تداوي الآخرين فلا ترقص طرباً على جراحهم، وإن لم تزد على الدنيا بحسن خلقك، فلا تكن زائدا عليها بسوء فعلك، وأن أمنية أبيك أن تموتَ شهيدا، فتمناها على الله بصدقٍ، فربما تنالها، فقد تمنيتها في رابعة، لكن أبتْ عناية السماء أن أحظى بها، وقالت لي: أنت أهون من أن أتخذك شهيدا.... حفظك الله يا بني وكل أولاد المسلمين، وإلى لقاءٍ تحت عدالةٍ قدسيةِ الأحكام والميزان.