كتب -د / جميل الإمام :
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
من ملامح القيادة السياسية عند النبي 
شاءت إرادة الله تعالى أن يصطفي محمدا  على سائر البشر، نبيا ورسولا، وأن يؤهله بكل مقوم يصل به إلى درجة الكمال البشري، في كل جانب من جوانب الحياة ، ليظل مقام القدوة الأمثل والأكمل متمثلا فيه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 21]
ومن ثم يجد فيه كل إنسان بغيته، فالعالم الرباني، والمعلم، والسياسي، والداعي، والزوج، والأب، والجار، والزاهد، والعابد، والمجاهد، والعامل، والتاجر، والقائد،..... كل هؤلاء إن أرادوا لهم مثلا وقدوة فسيجدونها أكمل، وأحسن وأروع ما يكون في محمد .
وحينما نتحدث على مستوى القيادة السياسية فلقد كان محمدا  يتمتع بقدر كبير من العبقرية والحنكة السياسية، التي أهلته ليكون قائدا متميزا ،وعلامة فارقة في تاريخ الإنسانية، فلقد استطاع أن ينشئ أمة عظيمة، لها دورها البارز والمؤثر في المشهد الإنساني، أمة عظيمة تقود الدنيا بأسرها ، بما تمتلك من مقومات ومؤهلات القيادة، التي غرسها فيها منشؤها الأول  ورباهم عليها،  استطاع  أن يخرج هذه الأمة من مجتمع  عرف عنه التخلف،والفرقة، والهمجية، والعصبية القبلية، ولم يعرفوا قبله نظاما سياسيا يجمع شتاتهم، ويوجههم لهدف وغاية عظمى، أسمى وأرقى من مجرد العيش للبحث عن الكلأ، والنضال والقتال من أجل الذود عن الإبل والمرعى .
لقد حول النبي  هؤلاء البدو من العرب بهذا الإسلام العظيم وبما غرسه في نفوسهم من قيمة ومبادئه إلى أعظم أمة عرفها التاريخ الإنساني، ويكفي شاهدا موقف ربعي بن عامر حين وفد على رستم قائد جيوش الفرس في القادسية حين قال له رستم : ما الذي أخرجكم من بلادكم؟                فقال ربعي : الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله .
 فقال رستم: وما موعود الله ؟
فقال ربعي: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.()
لقد فجر فيهم النبي  بفضل قيادته لهم كل ألوان الخير ومعاني العطاء، وطاقات الإبداع، والإحساس بقيمتهم وشرف ما لديهم، والاعتزاز بأنفسهم، والثقة بمبدئهم، والولاء لفكرتهم .
لقد كان النبي  في قيادته للدولة الإسلامية يتمتع بكل خصائص ومقومات القيادة السياسية الفذة، والبارعة على المستوى الداخلي للدولة والخارجي ،فأقامها دولة على أسس الحق والعدل، والشورى، وضمان الحريات الدينية والفكرية.                                                                 دولة لها دستور يوضح معالمها، يقبل بالتعددية، ويراعي حقوق الأقلية، ويضمن التواؤم بين أفراد المجتمع إعلاءً لمبدأ السلم الاجتماعي.
     وبحكم قيادته السياسية فاوض، وعاهد، وأبرم المواثيق، وبعث الرسل والسفراء، وانفتح على العالم الخارجي من حوله، واكتسب من جراء ذلك احترام وتقدير الملوك والأمراء والساسة والزعماء.
        لقد كان محمدا  نموذجا رائعا، وراقيا في ممارساته السياسية حين زواج بين السياسة والأخلاق، ومراعيا القيم والمثل العليا، ليقدم نموذجا للبشرية تفخر به وتعتز أيما اعتزاز وفخر، فمارس السياسة بأمانة، ووفاء، وصدق، وهذا معلم واضح من معالم قيادته السياسية، ولم يعرف  التاريخ له غدر، أو تلون، أو خيانة، أو مماطلة، بأبي هو وأمي .                              لقد كانت الأخلاق عنده أنبل، وأسمى، وأشرف من أن تكون ألعوبة في يد الحكام والساسة، يوظفونها حسب الرغبات والأهواء، والنزعات الشخصية  فتضيع كل قيمة، وتتلوث كل فضيلة.
      إن الواقع اليوم من حيث الممارسات السياسية يثبت بيقين أن السياسة لا دين لها، ولا خلق لها، ولا مبدأ لها غير مبدأ الغاية تبرر والوسيلة، ثم لتسقط كل قيمة ومبدأ، ولتذهب حقوق الإنسان وقيمته وكرامته إلى الجحيم. إن البشرية اليوم انتكست في حمأة الجاهلية الأولى من جديد يوم أن سيطرت عليها المادة والمصالح الخاصة، وجنبت القيم والمثل العليا جانبا، فشقيت بمبادئها وأشقت من حولها، وليت قومي يعلمون أن الدين بما يفرزه من سمو أخلاقي وقيمي هو الإطار والسياج الحامي للبشرية من تلك الحمأة النتنة، وهو الرافع لها من وهدة شقاوتها .
      لقد كان محمدا  سياسيا فذا بحكمته، وحنكته ،ووفاءه وصدقه، وكريم طبعه، والمطالع لكل ممارساته باعتباره قائدًا للدولة الإسلامية يدرك جانبا من جوانب العظمة عنده   وحسبنا في هذه الإطلالة أن نلقي بعض الضوء على واقعة الحديبية؛ لنلمح من خلالها كيف كانت عظمة هذا النبي  بوصفه قائدا سياسيا .
 إن الحديبية حادثة فاصلة في تاريخ الدولة الإسلامية، وهي بداية مرحلة سياسية جديدة، حيث أجبرت الدولةُ الوليدة قريشَ حاملة راية الزعامة في الجزيرة العربية، والمناهضة للدولة الإسلامية على الاعتراف بها والتفاوض معها.وهي حادثة تبرز الكثير من الخصائص الرائعة للجماعة المسلمة، كما أنها أظهرت بجلاء مدى ما كان يتمتع به النبي  من عمق سياسي، وحكمة رائعة في إدارة الأزمة، ونظرة واعية وإدراك لأبعاد الأمور ومآلاتها ،نلمح ذلك من خلال :
تفويت الفرص على الأعداء بغية تحقيق المصلحة ،وذلك من خلال أمره  المباشر للمسلمين بضبط النفس، وعدم الاستجابة لاستفزازات قريش، التي كانت تحاول جاهدة أن تجر المسلمين لمواجهة عسكرية، تراها من وجهة نظرها محسومة النتائج لصالحها. غير أن النبي فوت الفرصة على قريش بعدم الانجرار وراء تلك الاستفزازات المتكررة، بل إن الصف المسلم كان على درجة عالية من الوعي والانضباط والالتزام بأمر قائده.
قراءته النافذة لشخصية كل مبعوث من طرف قريش، وبناء عليه يتم التعامل معه بما يتناسب وطبيعة شخصيته، لذا نرى أنه  اختلف تعامله مع كل سفراء قريش ومبعوثيها، بناء على شخصية كل واحد منهم؛ مما يدل على نفاذ بصيرته، وعمق فراسته.
فنراه مع بديل بن ورقاء الخزاعي ـــــ وكان رجلا يتمتع بالرزانة الفكرية والهدوء العقلاني ــــ يتحدث بعقلانية بالغة، ويحمله رسالة إلى قريش توضح سبب مجيئه، وأنه ما قصد إلا العمرة وتعظيم البيت وأداء النسك .
وحينما جاءه عروة بن مسعود الثقفي - وكان رجلا فظًا، غليظًا متكبرًا ، متعجرفَا– اختلف معه  تعامله فنراه  يتعامل معه بشيء من الإهمال تارة، وترك أصحابه يردون عليه بغلظة وهو يسمع ، بل كان  يتعمد أن يريه عمق محبته في قلوب المسلمين، ومدى تفانيهم في الالتزام بأمره، فكان يتفل التفلة أمامه يبتدرها الصحابة فيدلكون بها أجسادهم ، فيخرج من عنده لقريش وهو يقول : لقد قدمت على الملوك فما رأيت أحدًا يعظم أحدًا كما يعظم أصحاب محمد محمدا .
وحينما أرسلت له قريش الحلس بن علقمة سيد الأحابش - وكان رجلا متدينا، يعظم البيت، ويحب التأله -  قال النبي  لأصحابه:  أرسلوا الهدي في وجهه، وارفعوا أصواتكم بالتلبية، فعاد الحلس إلى قريش ينصحهم بأن يخلوا بين محمد والبيت، فما أراد إلا النسك.
وبعثت قريش سهيل بن بعمروـــــ وكان رجلا مفاوضا، حكيما عاقلا ــــــ فلما رآه النبي  قال: سهيل سهل الله لكم، وأبرم معه الصلح .
      لقد كان من حكمته السياسية  حسن التعامل بمرونة بالغة بناء على شخصية المفاوض أو المبعوث فيتعامل معه بالأسلوب الذي يفهمه، وبالطريقة التي يدركها الأمر الذي سيعود بأكبر النتائج، وبالغ الأثر على المسلمين .
ومن الملامح القيادية التي برزت للنبي  من خلال هذه الواقعة إظهار قدر كبير من المرونة وإعطاء بعض التنازلات بما لا يمس الثوابت، وذلك بغرض تحقيق القدر الأكبر من المصالح للدعوة والجماعة المسلمة، مع تجنب المسلمين عواقب الحرب والصدام المسلح، الذي يعيق الدعوة ويعطل مسيرتها، ويرسخ للعداوة والإحن في نفوس القوم .. 
تجلى ذلك واضحا من خلال عقد الصلح وكتابته، وما وقع من ملابسات حوله، ومن ذلك :
الخلاف حول البسملة في كتابة الصلح:  
كان النبي  قد أمر علي بن أبي طالب أن يكتب في بداية الصلح ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، فاعترض سهيل قائلا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ، ولكن اكتب باسمك اللهم .وهنا يأمر النبي  عليا أن يمحو بسم الله الرحمن الرحيم ويكتب مكانها باسمك اللهم .
والمدقق لواقع الأمر يدرك أنه تغيير شكلي لا يؤثر على طبيعة العقد وليس فيه مساس بالعقيدة، فلا بأس منه وإلا فإن الأمر سيكون مختلفا لو أمر سهيل بكتابة عبارة مثل بسم اللات أو العزى .
الاعتراض على كتابة محمد رسول الله:
أمر النبي   عليًا بكتابة عبارة : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ، وهنا يعترض سهيل للمرة الثانية بقوله : لو أعلم أنك رسول الله ما عاديتك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله .فأمر النبي  عليا أن يمحها ويكتب بدلا منها محمد بن عبد الله ، فيأبى علي فيمحها النبي  بيده بعد أن أشار إليه علي بموضعها. لكن النبي  قال وهو يزيلها أما إني رسول الله وإن كذبتموني .
    إن هذا الإجراء من النبي  ينطوي على حكمة بالغة، و مرونة عالية، مع عدم التنازل عن الثوابت وذلك بالاستجابة لمطلب سهيل. والمدقق في الأمر يجد أن عدم كتابة اسم النبي  بصفة النبوة أو الرسالة لا يغير من حقيقة الأمر شيئا ، وليس فيه تنازلا حقيقيا يؤثر على المبدأ وثابت العقيدة، فالنبي يبرم هذا الصلح باعتباره رئيس الدولة الإسلامية وقائدها، وإقرار سهيل بن عمرو بالنبوة أو إنكاره لها لن يغير من حقيقة الأمر شيئا، ولذا نجد النبي  يستجيب لمطلبه وفي ذات الوقت يقرر ويؤكد على هذه الحقيقة أنه رسول الله وإن لم يعترف بذلك سهيل بن عمرو ومن ورائه .
 
الموافقة على الرجوع هذا العام، والاعتمار في العام القادم : 
 توافق الطرفان على رجوع المسلمين هذا العام ويعتمروا في العام القادم . وإن كان المسلمين مع النبي  أظهروا اعتراضا واسعا على هذا البند من الصلح إلا أن النبي أجاب قريشا لمطلبها .. فكان من حكمته  أن يحفظ لعدوه هيبته ومكانته، مع الاحتفاظ بحقه وعدم التنازل عن شيء منه ، لقد أدرك النبي  أنه إن أصر على أداء العمرة هذا العام فإنما يعرض الطرفين لحرب ضروس، فقريش تحاول أن تحفظ ما تبقى لها من ماء وجهها أمام العرب فلا تؤخذ على غرة، وتظهر بمظهر الضعيف، فكبرياؤها يمنعها من تقبل هذا الأمر  ...  والنبي كان يتفهم ذلك الموقف من قريش جيدًا، فأجابها للرجوع لكنه احتفظ بحق أداء العمرة وإن كان في العام التالي. 
إن الحكمة السياسية التي يتمتع بها النبي  أفضت إلى تجنب وقوع نوع  الصدام المسلح بين الطرفين بسبب أمر لا يستحق المواجهة العسكرية، فليتنازل النبي  عن العمرة هذا العام مع الاحتفاظ بحق أدائها العام المقبل ، ويجنب الطرفين المواجهة المسلحة .
إيقاف الحرب عشر سنوات : 
وهذا بند في غاية الأهمية تحتاجه الدعوة ، إن النبي  يفطن إلى حاجة الدعوة لمثل هذه الهدنة، وإحلال السلام بين الأطراف المتصارعة، ليستطيع تنظيم صفوفه، ويصل بالدعوة إلى آفاق جديدة، ويغزو بها قلوبًا وأفئدة ظلت تسمع عن المسلمين ولم تسمع منهم.
 ثم إن النبي  أراد من خلال هذه الهدنة أن يتصل بالعالم الخارجي، فبعث السفراء لملوك الأرض يدعوهم  إلى الإسلام .. 
فما أحكمه  !وما أوعاه لطبيعة الأمور! وما أبعد نظرته وحسن إدراكه ! 
 
 
من حصاد الحديبية
     لقد كانت قوة المسلمين في الحديبية تقدر بثلاثة آلف مقاتل ، وبعد الصلح بعام تقريبا كان عدد المسلمين يقدر بعشرة آلاف مقاتل.
عام واحد من الأمن والاستقرار استطاعت الدعوة أن تصل إلى شرائح وأماكن جديدة ،ما كانت لتصل إليها لو ظلت نار الحرب مستعرة .
    ثم إن النبي  أراد أن يوحد جهده لمواجهة عدو واحد، ولم يرد أن يشتت أمره بفتح جبهات قتالية أخرى، فمن خلال هذا الصلح استطاع النبي  أن يطهر الجزيرة العربية من الوجود اليهودي، مصدر القلاقل والفتن، والدسائس ليتفرغ بعدها لقريش ، فكانت غزوة خيبر آخر معاقل يهود .
    لقد كانت ممارساته صلى الله عليه وسلم في الحديبية دليل على بالغ حكمته الأمر الذي أعقبه فتح مبين على الدعوة والدولة المسلمة .
إن القيادة السياسية المتمثلة في شخص النبي  لتقف في  التاريخ الإنساني نموذجا رائعا يجب أن يهتدي بنوره كل من جاء بعده .