دائما أبدا نتعامل مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لا باعتبارها تاريخ ماض وإنما باعتبارها رصيد ملهم وموجه للتجربة البشرية الحضارية في كل زمن، ندرس سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم دائما من أجل أن نصنع الحاضر ونبني المستقبل، وغزوة بدر الكبرى واحدة من المناسبات الإسلامية الفارقة في تاريخ الإسلام، في كل عام تمر علينا ذكرى غزوة بدر في السابع عشر من رمضان نجد درسا جديدا ومعنىً ملهما كأنه كان خصيصا من أجل أن نسقطه على واقعنا المعاصر فنستفيد منه ونطور حياتنا وعملنا في ضوء يوم الفرقان..
في ذكرى غزوة بدر الكبرى هذا العام أتوقف أمام دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا). وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصدِّيق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك.
ففضلا عن قيمة الدعاء والابتهال والمناجاة والتضرع لله تعالى لطلب العون والمدد والمساندة والتوفيق والنصر الذي لا يكون إلا من عند الله تعالى.. فإنني أتوقف طويلا أمام صيغة الدعاء ذاته ( إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ).. هذا المعنى الذي ألح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه هي الجماعة أو العصابة المؤمنة حصريا.. وليس هذا يحمل أي نوع من التحيز أو المبالغة، أو العنصرية والاستعلاء على طريقة المعتقدات اليهودية التي تزعم أن بني إسرائيل هم شعب الله المختار كما أثبت عنهم القرآن الكريم قولهم
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }المائدة18
لكن المعنى الذي رمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلح على ربه في الدعاء أن هذه العصابة المؤمنة هي التي تحمل قيم الإيمان الحقيقي والعبادة الحقيقية الخالصة لله تعالى، وقد استحقت هذه العصابة الخيرية المطلقة، والإيمانية الحصرية بحملها قيماً وأخلاقاً ومبادئ وممارستها سلوكا متميزا لا يقاربه سلوك آخر على وجه الأرض يومها.. إن هذه العصابة التي خاضت معركة الفرقان تمتعت بممارسة القيم الإيمانية ممارسة واقعية ولم تكتف برفعها شعاراً يتردد على الألسنة أو تنطلق بها الحناجر ومع قيمة من هذه القيم العليا نظن أننا في أمس الحاجة إليها في تأسيس دولنا الحديثة – ما بعد الربيع العربي – نراجع واقعنا المعاصر على ممارسات العصابة المؤمنة يوم الفرقان، لنجب بعدها على سؤال حتمي هل نحن نحمل نفس قيم العصابة المؤمنة سلوكا وممارسة أم أننا نحتاج إلى مراجعة سلوكنا إلى سلوكهم وإعادة صياغة قيمنا العملية من جديد؟
قيمة العدالة المطلقة الناجزة
فروي أنه قبيل غزوة بدر عدَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يديه قِدْح يعدل به، وكان سَوَاد بن غَزِيَّة مُسْتَنْصِلًا من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: (استو يا سواد)، فقال سواد: يا رسول الله، أوجعتني فأقدنى، فكشف عن بطنه وقال: (استقد)، فاعتنقه سواد وقبَّل بطنه، فقال: (ما حملك على هذا يا سواد؟) قال: يا رسول الله، قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير. .. إن أردت أن تأخذ من هذا الموقف الذي قد يراه البعض بسيطا، وأراه موقفا خارقا لطبيعة المعارك والجيوش وقواعد العسكرية( الرحمة والرأفة بالجنود والعطف على الرعية وإنسانية الإسلام في كل مواقف الحياة سلما وحربا، فإن الموقف يحتمل كل هذه الدروس والتأويلات وأكثر ) ولكن تأمل معي قيمة العدالة المطلقة الناجزة .. مطلقة لأن الجندي أراد أن يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نبي الأمة ورئيس الدولة والقائد الأعلى للجيش، وأراد هذا القصاص من موقف يراه أغلب البشر موقفا هو حق مطلق للقيادة أن تسوي الصفوف وأن تعاقب النشوز عن الصف كيفما شاءت، ويراه جندي في العصابة المؤمنة خارج حدود العدالة التي تساوي في الإنسانية بين القائد الأعلى ورئيس الدولة وبين جندي عادي في الصف لم يذكر اسمه إلا في هذا الموقف العبقري!!
وناجزة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع شعاراً عسكرياً نسمعه كثيرا ( نفذ ثم تظلم ) ، وإنما تمَّ تطبيق العدالة والقصاص في التو واللحظة!!
إن العصابة المؤمنة التي تتعبد لله تعالى بسلوكها وممارساتها كما تتعبده بأقوالها وصلاتها وشعائرها هي العصابة التي لا يظلم فيها ضعيف ولا فقير ولا بسيط ولا رجل ممن يقال عنهم في المصطلح الحديث ( رجل الشارع العادي )، لكن العصابة المؤمنة هي التي تنتصر للضعيف قبل الشريف أو بالمساواة مع الشريف وللفقير على قدم وساق مع الغني، ومن المجهول الذي لا يؤبه له مع الرجل ذو المكانة والشهرة .. إن قيمة العدالة المطلقة والناجزة هذه التي بنى عليها الصدِّيق أبو بكر نظام حكمه حين استقبل خلافته بقوله: إن الضعيف منكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه!!
إن قيمة العدالة المطلقة والناجزة هي نفسها التي حذَّرنا من فقدانها النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال : إنما هلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!!
إن ضياع العدالة المطلقة الناجزة ليس معناه فقط غياب وضياع قيم العصابة المؤمنة التي يدعى الله تعالى بإبقائها فيجيب عز وجل ، وإنما غياب العدالة المطلقة والناجزة يؤذن أيضا بالهلاك وزوال الفئة التي تغيبها.. في ضوء غزوة بدر الكبرى وقيم العصابة المؤمنة التي دعا رسول الله ربه مستنصراً لها فنصره، نحتاج إلى مراجعة مواقفنا من العدالة ممارسة ومعاملة وسلوكا في كل مواقفنا فيما بيننا وبين أنفسنا، وفيما بيننا وبين الآخر أيا كان ومن كان.. لنستحق نصراً كنصر يوم بدر ، وفرقانا يفرق فيه الله تعالى بين الحق ورجاله وبين الباطل وأذنابه..
• عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية .