مجدي مغيرة

في قلب معركة الصراع بين الحق والباطل تزيغ الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر ، ويصل الأمر بالبعض أن يظن ظن السوء بربه سبحانه وتعالى ، إذ يرى الظلم وقد علا وما زال يعلو ، والنفاق قد استشرى وما زال يستشري ، وكلمة الحق تؤدي بصاحبها إلى بلاء عظيم ، إما قتل ، وإما سجن ، وإما تهجير من وطنه أو حرمان من عمله أو وظيفته ، وإما أن تتسلط عليه  كلاب الأرض ؛ فتؤذيه في نفسه وأهله وماله ، وتلطخ سمعته الطاهرة ؛ فتتهمه بما ليس فيه ، وتحكي عنه ما لم يفعله ، وتفسر كل شاردة وواردة من أقواله وأفعاله بما لم يخطر له على بال .

وبسبب ذلك ينفض عنه كثيرٌ من الناس ، ويتهربون من مقابلته أو معاملته ، أو من صداقته ومؤانسته ، خوفا على أنفسهم ، وحرصا على مصالحهم ، وكل ذلك إنما هو من جبروت أهل الباطل  ومهارتهم في تزويق باطلهم ، و إظهاره على أنه الحق ، وإظهار الحق على أنه هو الباطل بعينه .

لكننا ننسى أن هذا جانب مما أخبر به القرآن الكريم ، ويقابله جانب آخر ننساه في زحمة المصائب ، وقسوة العواصف ، وزلزلة الأرض من تحت أقدامنا .

 فقد بين الله تعالى لنا في القرآن الكريم سنناً لا تتحول ولا تتبدل حينما يحتد الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل ، منها :

    أن مكر أهل الباطل مكرٌ عظيم يكاد يقتلع الجبال ، كما قال سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم :" وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ"  (46) .

    ومن ألوان المكر الذي ذكره الله تعالى في الآية الكريمة هو بلاغة الكلمة ، وقوة تأثيرها على النفوس ، مثلما قال تعالى في سورة الأنعام :"وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ"(112)  .
    ومنها أيضا براعة الحيلة التي تجعل الناس يصدقون الأوهام ، وينكرون الحقائق ، خوفا من سطوة الباطل ، كما ورد في سورة الأعراف :" فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ"   (116).
    ومنها تكرار الأكاذيب على أسماع الناس بمختلف الصور والألوان كما في قوله تعالى  في سورة سبأ:" وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا" (33).

1-   لكن الله تعالى لا يبتلي المؤمنين بهذا المكر العظيم إلا إذا كانوا مؤهلين لتحمل تبعاته ، إذ أخبر المولى عز وجل أنه لا يُحَمِّلُ المؤمنين فوق طاقتهم ، فقال سبحانه في سورة البقرة :" لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قلت : " يا رسولَ اللهِ أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً ؟ قال : الأنبياءُ ثمَّ الامثلُ فالأمثلُ حتى يُبتلى العبدُ على قدرِ دِينِه ذاك فإنْ كان صُلْبَ الدِّينِ ابتُلِيَ على قدرِ ذاك . وقال مرةً : أشدُّ بلاءً وإنْ كان في دِينِهِ رِقَّةٌ ابتُلِيَ على قَدْرِ ذاك .  وقال مرةً : على حَسَبِ دِينِهِ . قال : فما تَبرحُ البَلايا عن العبدِ حتى يَمشيَ في الأرضِ يعني وما عليهِ من خطيئةٍ" . فابتلاء الله تعالى لنا بهذا البلاء الصاعق يعني أننا قادرون على تحمله ، صابرون على أذاه حتى يأذن الله تعالى لنا بالفرج . 2-   أن هذا الابتلاء لا يكون إلا تمحيصا للصفوف ، ولإقامة الحجة على المؤمن الصادق ، وعلى المنافق ، وعلى من يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة ، كما قال تعالى في سورة الأعراف تعليلا لمشيئته سبحانه أن يزخرف أهل الباطل في قولهم فقال سبحانه : "وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ" الأنعام (113) ، ولذلك ما على المؤمنين سوى الصبر ، والانتظار حتى يأتي الله بالفرج وبالنصر المبين بعد أن يبذلوا وسعهم قدر ما يستطيعون ، كما قال في سورة يوسف :"يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (87) . و التحسُّسُ كما ورد في التفسير : طلب الشيء بالحواس، والتعرُّفُ عليه مع الاستقصاء الدقيق ، أي بعد أن يبذل المؤمن كل ما يستطيع وكل ما يقدر . 3-   أن عاقبة الظالمين هو الهزيمة في الدنيا قبل الآخرة ، وأن جهودهم ستكون هباء كما قال تعالى : "وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ"   طه (69) ، وقال أيضا :" قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"   الأنعام (135)، وقال أيضا :" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ   الأنفال (36)، وقال أيضا :" وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ "  آل عمران (146). إن صمودك في وجه الريح العاصف ، وجرأتك في قلب الليل الحالك ، وشجاعتك أمام الموج العاتي لهي علامة اقتراب النصر وانبلاج الفجر وزوال الباطل وانسحاق الظلم . قد يفتحُ اللهُ باباً كنتَ تَحْسَبُه      من شدة الغلق لم يُخْلقْ بمفتاحِ

 
 

المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولايعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر