د.حمادة عبد الإله حامد
كان صوت خطيب الجمعة يشق ثوب السكون، وقد اشرأبت الأعناق كلها إليه، كأنما تنتظر أخبار السماء، وسط آلام تدفقت من ينابيع القلوب، كنت أشتم عبق الشهداء من كل صوب، وأتنسم رحيق التضحيات من كل ناحية، فجأة تناهي إلى سمعي أزيز الدبابات تهدرقريبا من المسجد، أحسست جسدي يضمر، جززت على أسناني بشدة، وانتابتني رعدة، رأيت جنودا أقل ما يمكن وصفهم به أنهم وحوش همجية هبطوا كسيل عارم لا سبيل إلى وقفه.. اجتاحت المسجد، لم أستطع أن أخفي روعي وفزعي، وقد أخذوا يمثلون بالناس ويتركون عصيهم الكهربائية تمارس عملها، كان الناس ماثلين ذاهلين، والفزع ينتشر في الجو كما الدخان الكثيف... قصدوا إمام المسجد.. وقبضوا عليه وسط تهديد وسب وقذف، تقدم إليهم أحد الرجال الطاعنين في السن يرفل داخل ملابسه الفضفاضة، كان عجوزا جاوز الثمانين من عمره له لحية بيضاء وعينان ثاقبتان تحب النظر لبريقهما العسلي، ابتلع ريقه، وتجرع الألم وراح يصيح فيهم وصوته يضطرب وجسده يهتز:
ألا تستحون؟ نحن في بيت الله... راحوا إليه يسحلونه ويمسحون بلحيته أرض المسجد، نزلوا به على الدرج حتى كاد يتلاشى.
كانوا يصيحون به:
من اليوم ما في شيء اسمه الله أكبر...
فكأن أصواتهم نار دخلت أذني لتحرقها بحرها الكاوي...
كنت أسمع بوضوح قلبي يدق... احتدم الغيظ في قلبي.. واغرورقت عيناي بالدموع ... استقر الحزن في عيني... خرجوا به ومجموعة من المسجد لا ندري مصيرهم ... كنا جميعا مكومين في ناحية من المسجد نرقب ونرتعد من الخوف... تأكدت أنها يوم قيامتي... ملأنا عويل العاصفة رهبة... خففت إلى البيت، أرقب الطريق يمنة ويسرة وأنا أسمع أصواتا مكتومة لانفجارات تصك أذني، فجأة ارتطمت بعنف بالغ بكومة مهملات... ويالهول ما رأت عيني... فتاة مذبوحة من رقبتها، رأيتها وجهها شاحبا في لون الشمع، جمدت من الخوف، كان الدم يغمر كل جسدها... تبيت وجهها، ملامحها ليست غريبة علي، كانت ذراعا الجثة مربوطتين، عليها آثار التعذيب وعظامها مكسرة، يا الله أليست هذه أم فلانة جارتنا، علمت بعد ذلك أن الزبانية هاجموا أبناءها، وحاول اغتصاب ابنتها، ولما اعترضت - وهي الحامل- أخذوها واغتصبوها وعادوا بها هنا في أكوام المخلفات ليكسروا قلب أسرتها...
وقفت على الأرض ألهث شبه مخدر وكأنما عبرت لحظة اللاوعي وغصت فيها، رفعت يدي أمسح بها دموعي كدت أتلاشى... التوى قلبي.. وجدت نفسي أهوي إلى الأرض وأنا أنظر في تردد وذهول، إنها الحقيقة بالرغم أني لا أستطيع تصورها، بدأت الأرض ترتج في عنف بالغ من تحتي، أحسست بدوار، بدأت أتخيل أي جزء من جسدي ستمزقه شظايا مشتعلة، كيف سيكون مصيري؟
احتضنت الأرض متشبثا كأنما أختبئ بمزيد ترابها.. رحت أتذكر وأنا شبه مخدر ذلك الرجل الذي حكى عن زبانية النظام إذ دخلوا عليه وهددوه بقتل أبنائه إن لم يرتدعوا عن التظاهر فأبى فقتلوا ابنه ذا الثلاثين عاما، كان متزوجا وعنده أربع بنات وابنان... ثم بعد أربعة أيام وجد الرجل ابنه الآخر ذا الثمانية والعشرين عاما جثة ملقاة في أكوام المخلفات، كان أبا لثلاثة من الأبناء... كان الحفيد يسأل جده بكل براءة عن أبيه؛ فيجيبه الجد بصوت حان دافئ: إنه في السماء يا بني، فيجيب الابن: ولم لا تذهب للجنة وتحضر أبي؟... فكأنما انغرست كلمات الطفل في قلبه شوكة دامية... فينوح الشيخ باكيا كأنه الطفل..
وإن نسيت فلن أنسى ذلك الشاب الذي ظل يزأر عندما قبض عليه الوحوش البشرية: الله أكبر، فإذا بالشيطان البشري يصب عليه جام صوته الغليظ القبيح: أنا أكبر... وما لبث أن أركبه السيارة، وعندها أوقفت السيارة فجأة، كان الجندي قد وضع روسيته (بندقيته) تحت ذقنه داخل السيارة، فما لبثت أن اندفعت طلقات المسدس مع وقوف السيارة، فاصلة رأسه عن جسده، لتضرب في السقف وسط ذهول من الناس حتى صاحوا جميعا: الله أكبر... الله أكبر فوق كيد الظالمين ... لك الله يا سوريا... أبطالك البواسل... ثم فاضت دمعة منه ونظر للسماء كأنما يتعجل النصر.