13/12/2009

د. محمد عبد الرحمن

تميَّزت دعوة الإمام الشهيد بتحقيق هذا التوازن، والإحاطة الكاملة بمتطلبات الدعوة والحركة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعة ككل، فيقول موضحًا ذلك: "إن هذه الدعوة لا يصلح لها إلا مَن حاطها من كل جوانبها".
 
ومع اهتمام الإمام الشهيد بالتربية وتكوين الأفراد وإصلاح حالهم وتقدير متطلبات نموهم، فإنه لا يحولهم إلى رموز جامدة منغلقة، أو أن يتم تكوينهم في حجرات مغلقة، وإنما انطلق بهم في المجتمع لإبلاغ الدعوة وإرشاد الأمة إلى معالم الإسلام وأخلاقه، وجعل المسجد هو أصل الانطلاقة، وعاد به إلى دوره الأول في الإسلام، مع عدم إهماله لوسائل الدعوة الأخرى ومؤسسات المجتمع المتنوعة كميدانٍ للدعوة والإصلاح، وجعل من واجبات الأخ في مراتب العمل أنه مع إصلاح نفسه وتكوين البيت المسلم عليه في نفس الوقت التحرك داخل المجتمع وإرشاده وإصلاح المفاهيم والسلوكيات وكسب المتعاطفين ونشر الدعوة، ولم يجعل ذلك أمرًا لاحقًا أو مرحلة مؤجلة لحين استكمال التكوين.
 
وأوضح الإمام في ذلك أن محاور الدعوة من التعريف بها والتكوين لأنصارها والتنفيذ لوسائلها وحركتها لا تنفصل عن بعضها البعض، بل تسير متعاونة متساندة، إن أي نشاط أو فعالية لاكتمال الفائدة منها يجب أن تتحقق فيها هذه الجوانب الثلاث "التعريف" فنحدد الرسالة الدعوية التي يحملها هذا النشاط.. "والتكوين" فنحدد مستهدفًا في التكوين والتربية يتحقق بها الأفراد في حركتهم ونشاطهم ونعالج السلبيات التي تظهر عندهم.. "وفي التنفيذ" إتقان العمل واكتساب الخبرة والمهارة في تنفيذ هذا النشاط.
 
ولهذا كان التركيز على الأفراد يسير متوازيًا مع بناء الجماعة وحركتها في المجتمع، ووجودها في ساحة التأثير والإصلاح والتغيير حتى تئول لها الريادة وتقترب من تحقيق أهدافها الشاملة التي أشار إليها ركن العمل في رسالة التعاليم.
 
ولم يكن هذا مجرد تصور نظري بل حوَّله الإمام الشهيد إلى برنامج عملي وخطة متكاملة متعددة المراحل تسير عليها الجماعة في توازن بين الداخل والخارج، بين متطلبات التربية وواجبات الإصلاح من ناحية والحركة في المجتمع ومواجهة الأحداث وقيادة الأمة فيها من ناحية أخرى.
 
وها هو الإمام منذ الأيام الأولى للدعوة- وهي في مهدها- يمارس الإصلاح والدعوة بالمجتمع في نفس وقت تربية وتكوين الأفراد، وتشهد بذلك دار التائبات بالإسماعيلية، والحركة الدعوية الواسعة بين عمال شركة قناة السويس، ثم كذلك نراه في حركة الجماعة بالمجتمع وإيقاظ الأمة ضد الاحتلال الإنجليزي وتجاه قضية فلسطين والخطر اليهودي، والمساهمة الفعالة في مواجهة هذا الخطر، وتقديم الشهداء والتضحيات في سبيل ذلك.

إن دعوة الإخوان ليست دعوة سرية أو دعوة انغلاقية أو دعوة محدودة التأثير والمكان أو محدودة المقاصد والأهداف، وإنما هي تحمل مشروعًا إسلاميًّا متكاملاً على منهج النبوة لنهضة الأمة الإسلامية في العالم أجمع.

وتأتي أوقات وأحداث على الجماعة فتشهد إقبالاً متزايدًا من الناس أو فرصًا مواتيةً لنشر الدعوة والتحرك بها من مجالٍ إلى آخر أرحب، أو من مستوى لمستوى أعلى، يحدث ذلك أحيانًا بغير ترتيب وإعداد داخلي كامل مسبق، ويصبح مطلوبًا في حينها تطوير الدعوة لمواجهتها، واستيعاب هذا الإقبال أو الاستفادة من تلك الفرص والمجالات، وليس القعود والتردد بحجة أن هذا لم يكن جاهزًا في التخطيط السابق، أو أن الأفراد لم يستكملوا الاستعداد الداخلي اللازم، ومواجهة المتغيرات والمستجدات.
 
فالفرصة لا تنتظر مترددًا أو قاعدًا، طالما أن ذلك يسير في الاتجاه العام للدعوة ويحقق لها المصلحة.
 
وقد تأتي أحداث تفرض نفسها على الجماعة بحكم وجودها وقيادتها للمجتمع؛ مما يتطلب مواقف وفعاليات قد تكون أكبر من حجمها أو إمكاناتها الحقيقية، وفي هذه الحالة تتحمل الجماعة مسئوليتها ولا تتخلى عن واجباتها تجاه الأحداث، لكن مع تحديد دقيق للمستهدفات والتكاليف والإجراءات المطلوبة، والتفرقة بين الممكن والمستحيل، وعدم خروج ذلك عن الخطة العامة ومسار الدعوة في أساسه.
 
أما التحجج بعدم الانشغال بذلك لحين استكمال تكوين الأفراد وتربيتهم؛ فهذا تصور ناقص للدعوة يخرجها من ساحة التأثير ويضعف دورها داخل المجتمع، وهو أيضًا لا يحقق التكوين التربوي الصحيح للأفراد بإبعادهم وانغلاقهم في هذه الأحوال، كما أنه تصور يخالف المسار الدعوي العملي في حياة الإمام الشهيد.

ومن الخطأ أيضًا في هذا المجال أن ينغمس الأفراد في الحركة والنشاط ومواجهة الأحداث والمواقف دون وضوح رؤية عندهم، واستيعاب لأهداف دعوتهم وحركتهم وقدرة على الاستفادة من الواقع المحيط ومن المستجدات لصالح خطتهم ومسيرتهم، أو أن تشغلنا الحركة والنشاط عن التركيز والتكوين التربوي للأفراد واكتساب العناصر الجديدة للصف، بل تستفيد من كل ذلك في تعميق وتحقيق هذا التكوين المنشود، ولا تصْرِفنا الحركة مع المستجدات عن خطتنا الرئيسية بل نُحَوِّل نتائجها لصالح الدعوة.
 
وإن الميزان الضابط لهذا التوازن، يكون بيد مؤسسات الجماعة وقيادتها وليس وفق رؤية شخصية أو مرجعية فردية.
 
وبالنسبة لتساؤل قد يطرحه البعض، هل تشكل الجماعة وسيلة أم غاية؟ فإن الرؤية الواضحة المنطلقة من الباعث للدعوة تؤكد أن الجماعة ليست وسيلة ولا غاية، وإنما هي فريضة واجبة لتحقيق التكليف الشرعي، وهي تظل قائمة ما دام التكليف الشرعي الباعث على إنشائها لم ينتف، ويخطئ البعض حين يظن أن التكوين التربوي للأفراد مرحلة، وأن العمل مع المجتمع مرحلة تالية قد دخلنا إطارها وفعالياتها، فالعمل مع النفس والمجتمع وحدة واحدة ووجهان لعملة واحدة لا ينفصلان، يسيران معًا ويتبادلان التأثير، فإيمان الفرد وإبلاغه الرسالة للناس واجب عليه حتى ولو فقه آية واحدة من كتاب الله، ومراتب العمل التي أشار إليها الإمام الشهيد من تكوين وإصلاح الفرد والبيت والمجتمع، هي مراتب متوازية مترابطة وليست مراحل تنتقل فيها الدعوة من مرحلةٍ إلى أخرى، لكن الفعاليات والوسائل المستخدمة قد تشهد اتساعًا أو ضيقًا أو تطويرًا حسب المناخ والأحوال والظروف التي تمر بها الجماعة في أي محورٍ من المحاور.
 
ومن الأمور المهمة في الفهم والعمل، وخاصةً مَن يشارك بدرجة كبيرة في فعاليات إصلاح المجتمع ألا ينسى الجماعة وأهدافها والعمل على تقوية دعائمها وترسيخ أساسها والارتفاع ببنائها، وأن يقدمها عند اختياراته ويجعلها المرجعية في مسار حياته وحركته. فهي الركيزة الأساسية لأي إصلاح نريد منه أن يصب في تحقيق الأهداف الكبرى، وهي القاعدة الصلبة التي تقود وتوجه وتصمد في مواجهة الضغوط والمعوقات، وتضمن عدم الانحراف والزوغان عن الطريق المستقيم، ولا يجوز لمَن يعمل في صفها أن يقول: لقد تجاوزنا مرحلة الجماعة والتركيز عليها إلى مرحلة المجتمع.
 
إن أي ذوبان للجماعة أو إضعاف لبنائها أو إهمال لكيانها ونموها أو إضعاف لدورها القيادي في الدعوة بأي حجةٍ من الحجج؛ لهو بمثابة ضربة موجهة إلى الأهداف الإسلامية الكبرى وإلى المشروع الإسلامي لنهضة الأمة واستعادة كيانها ودورها القيادي في العالم.
 
بهذا التوازن بين التكوين والحركة، بين الداخل والخارج، أو بين متطلبات الفرد ومتطلبات الجماعة في ساحة التأثير والحركة؛ تشق الدعوة طريقها، وبهذه القدرة على استيعاب المتغيرات والمستجدات وترقُّب الأحداث واقتناص الفرص تسير الجماعة نحو تحقيق أهدافها دون خلل أو ضعف أو توقف أو انحراف عن الأصول والأهداف الأساسية للدعوة.

كما يلاحظ أن تنظيم جماعة الإخوان والأسس التي أرساها الإمام الشهيد في تكوينه كانت بفضل الله من القوة والإحكام ما جعلها تصمد طوال هذه السنين وتعبُر العديد من الأزمات وتتحمل كل هذه الضغوط والمؤامرات، وقد جعل هذا الشهيد سيد قطب عند كتابته عن الإمام البنا يصف ذلك بعبقرية البناء.

فالإمام الشهيد لم يكن يحمل مثل غيره من المصلحين أفكارًا ومناهج ويقف عند ذلك، بل حوَّل هذه الأفكار إلى أرض الواقع، وإلى تكوين منظم يحمل الدعوة ويستمر عليها لتحقيق أهدافها، وكان في ذلك متأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته ومنهجه؛ حيث أرسى عرى الإيمان في القلوب، وجمعها على عرى الأخوة والترابط، ونظمها ووظفها في حملها للدعوة والجهاد في سبيلها.
 
كما أكد الإمام الشهيد أهمية ذلك؛ حيث أشار في رسالة المؤتمر الخامس أن مصدر قوة الجماعة يقوم على قوة العقيدة والإيمان مع قوة الرابطة والتنظيم، ووضع لذلك أركانًا للبيعة وضوابط للعمل ومنهاجًا للتربية.
 
وعندما استعصى على الأعداءِ من أصحاب المشروع الغربي الصهيوني ومَن تابعهم من أنظمة القضاء على هذا التنظيم أو إضعافه بالسجن والتشريد وبالقتل والتعذيب وحملات التشويه وتلفيق التهم؛ بدأت تظهر أطروحات تدعو إلى تجاوز هذا الجانب وعدم الاهتمام بالارتباط التنظيمي ولو مرحليًّا في مواجهة واقع الضغوط المحيطة، ودعموا ذلك ببعض الإغراءات للأفراد وبمساحةٍ أوسع من العمل والظهور، كل هذا بهدف القضاء على مصدر قوة الجماعة وجوهر تكوينها.

لقد فشلوا قبل ذلك في دعم تمردات أو خروج بعض الأفراد على الجماعة، وظنوا أن هذا سيشق صفها ويخرج معهم العشرات والمئات، فإذا بهم قد تعلقوا بأوهام وبغصنٍ جاف، وإذا بالجماعة قائمة مستمرة لم تتأثر ولم تهتز مهما علا شأن هؤلاء الأفراد.

إن مَن يفصل بين الفكرة والرسالة وبين العمل الجماعي المنظم يخالف بذلك أصلاً من أصول الدعوة، ويسلك طريقًا غير مكافئ للواقع أو قادر على التغيير، وسيبقى عمله ناقصًا وحركته مبتورة.
 
إن توظيف الأفراد ومَن يساهمون في الدعوة إلى الإسلام، وكذلك في وضع الخطط والبرامج لمواجهة الأحداث والضغوط والأزمات؛ لا يمكن أن يتم إلا من خلال جماعة منظمة وتوجيه وارتباط تنظيمي قوي "تتحقق فيه أركان البيعة" لعناصرها التي تعمل وتؤدي ذلك الدور في هذا المجال، إن مفهوم تجميد التنظيم أو إضعاف نموه واستيعابه للأفراد والكفاءات، أو تقليل الارتباط به، وإطلاقه العنان للأفراد كل "حسب رأيه وهواه"، كل هذه صور لإضعاف الدعوة وتحطيم الجماعة، وبعض مَن نادى بذلك كانت تعبيرًا عن ضعفه وعدم تحمله للضغوط والتضحيات، فكانت قعودًا أو هروبًا من الجهاد وتبعاته وإن غلَّفها بمثل هذه الادعاءات.

__________________

 عضو مكتب الإرشاد