15/02/2009
كتلة من الذكاء والبيان والفقه والنفاذ إلى ما ينبغي، مجدد القرن الرابع عشر للهجرة.. وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف. استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه وجمع الله في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين، كان نديمًا لتلاوة القرآن الكريم بصوت رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري، وكان يتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله كأبي حامد الغزالي، ودرس السنة المطهرة فأفاده ذلك بصرًا سديدًا بمنهج السلف والخلف، وكان قادراً على رفع المستوى الفكري للجماهير مع محاذرة لبقة من أسباب الخلاف ومظاهر الغضب، وأحاط بالتاريخ الإسلامي، وتعمق في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده.
أتقن حسن البنا صناعة الرجال بعد أن أتقن دقة الاختيار لهم، وانشغل بصناعة الجيل الجديد للإسلام على الأساس الذي وضعه للنهوض به لتكوين دولة الإسلام. ولم ينشغل بتأليف الكتب رغم امتلاكه ثروة هائلة من العلم والمعرفة المتنوعة المتخصصة، كانت لديه ثروة طائلة من علم النفس، وفن التربية، وقواعد الاجتماع، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد، وميزان المواهب. وكان قادراً على امتلاك ناصية الكلمة التي تأسر العقول فور ملامستها شغاف قلب السامع. سل الألوف المؤلفة التي التقت به، ما من أحد منهم إلا وفي حياته ومشاعره وأفكاره أثر من توجيهات حسن البنا، أثر يعتز به ويغالي بقيمته ويعتبره أثمن ما أحرزه في دنياه.
وأيقن حسن البنا أن هزيمة المسلمين في مواقع شتى، وكسر شوكتهم وانهيار دولتهم، وتمكين الغرب من ثرواتهم و ملاحقتهم في عقر دارهم. يكمن في النفوس العاجزة، والجماعة المسرفة الضعيفة، والدولة التي هدمتها الدنيا بحبها وكراهية الموت... ومن ثم فيجب أن تقوم النفوس بالطاعة، وأن يحارب الإسراف والترف بالاقتصاد والاجتهاد... وأن تعلم الأمة الإقبال على المخاطر لتسلم لها الحياة ومن ثم ينتصر المؤمنون. ومن هنا فقد أوضح الإمام البنا أن علاقة الفرد بربه، علاقة إنتاج وإقبال واستغفار، لا علاقة كسل وإدبار وانهيار، كان البَنَّاءُ حسن يجمع اللبنات الجديدة لإعادة ما انهدم من أركان الحكم الإسلامي النظيف.
لقد عاش على ظهر هذه الأرض أربعين عامًا لم يبت في فراشه الوثير منها إلا ليالي معدودة، ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة، والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام، في عصر غفل فيه المسلمون، واستيقظ فيه الاستعمار، ومن ورائه التعصب الصليبي، والعدوان الصهيوني، والسيل الأحمر! فكان حسن البنا العملاق الذي ناوش أولئك جميعًا حتى أقض مضاجعهم، وهدد في هذه الديار أمانيهم.
لقد عرف التجرد للمبدأ، وعرفت التمسك به إلى الرمق الأخير في مماته، وعرف أعداؤه خسة الغدر يوم قدم رفات الشهيد هديه للمترفين والناعمين. في وحشة الليل وصورة الغدر ويقظة الجريمة، كان الباطل بما طبع عليه من غرور، وما جُبِل عليه من قسوة، وما مرد عليه من لؤم، كان مستخفيًا ينساب في أحياء القاهرة الغافلة يجمع سلاحه، ويبث عيونه، ويسوق أذنابه مع الكبار والصغار ويعد عدته لكي يغتال مرشد الإخوان المسلمين .ولن تزال سلسلة الشهداء تطول حلقةً حلقةً ما بقي في الدنيا صراع بين الضياء والظلام.
خرقت الرصاصات جسدًا أضنته العبادة الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود، خرقت جسدًا غبرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصي البلاد، رحلات طالما عرفته المنابر فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ألوفًا في ساحة الإسلام! لقد عاد القرآن غضًا طريًّا على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله. خرقت العفاف الأبي المستكبر على الشهوات، المستعلي على نزوات الشباب الجامحة. ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت في سفحها أمواج المادية الطاغية، وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذي أفعم قلبه حبًّا للإسلام واستمساكًا به.
الرجل الصامت يتنقل في مدن مصر وقراها .. وخلال عشرين عامًا تقريبًا صنع الجماعة التي صدعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد، وحُلت الجماعة، وقتل إمامها الشاب في الثاني عشر من فبراير وقد بلغ اثنتين وأربعين سنة من العمر، وحملته أكف النساء مع والده الشيخ الثاكل إلى مثواه الأخير. وليست العبرة أنه انتصر على القوى التي نازلها أو لم ينتصر، وإنما العبرة بالسر الكامن وراء ذلك كله، فقد كان حسن البنا طاقة ضخمة من الحياة أراد لها الله أن يجدد بها المجتمع، ويطلق سرها في الأفق الهامد الراكد، وبدون هذا السر لا تقوم رسالة، ولا يطرأ على الأفق جديد