27/01/2009

حين كانت الطائرات الإسرائيلية تلقي أطنان قنابلها المسرطنة علي قطاع غزة وتوزع الموت علي ساعات النهار والليل، نشرت مجلة نيوزويك صورة علي صفحتين كاملتين لجثة طفل فلسطيني من ضحايا الاجتياح، وبعد ذلك مباشرة صورة علي صفحتين أيضاً لتابوت ملفوف بالعلم الإسرائيلي لأحد المستوطنين من ضحايا صواريخ المقاومة الفلسطينية. وهذا الأسلوب في النشر ليس بريئاً بطبيعة الحال، ولكنه محمل برسالة تقول إن الإسرائيليين يقتلون الفلسطينيين حقاً، ولكن الأخيرين بدورهم يقتلون الإسرائيليين. بما يعني أنه إذا كان الفلسطينيون يقتلون فالإسرائيليون معذورون.

ولكي يحقق النشر هدفه، كان طبيعياً أن يتجاهل كاتب التقرير أي إشارة إلي الاحتلال والحصار وإصرار الإسرائيليين علي خنق القطاع وتدمير الحياة فيه، الأمر الذي استدعي من المقاومة الفلسطينية أن تبعث برسائل الاحتجاج والغضب، وأن تتصدي بكل ما تملك من قوة لمساعي الخنق والتدمير.

تغييب الحقائق وتزويرها هو المحور الأساسي لما لا حصر له من التقارير والتحليلات التي تحفل بها الصحف الغربية الآن، والأمريكية - بوجه أخص.. ومن يتابع هذه الكتابات يلاحظ أن إسرائيل تخوض الآن بقوة معركتها علي الساحة الإعلامية لكي تغسل أيديها من دماء الفلسطينيين وتبرئ ساحتها من الفظاعات والجرائم البشعة التي ارتكبتها طوال أسابيع حربها علي القطاع.

سياسياً وقانونياً هم يرتبون أنفسهم الآن سواء بعقد صفقات مع الحكومات الأوروبية للحيلولة دون تقديم قادتهم للمحاكمة بتهمة إبادة الجنس باستخدام الأسلحة المحظورة، أو بتزوير الأدلة التي يريدون بها إثبات أن قصف المدنيين كان خطأ ناشئاً عن وجودهم بين «المتقاتلين» «!!» أو أنه كان بسبب إطلاق صواريخ من مساكنهم، إلي غير ذلك من الادعاءات والذرائع التي تتخلل سيل الكتابات التي تُنشر هذه الأيام.

أغلب الظن أن إسرائيل ستنجح في أن تكسب تأييد الحكومات - وربما القضاء أيضاً - إلي جانبها، لكن كسبها الرأي العام الغربي غير مضمون، خصوصاً أن بعض المنابر الإعلامية في أوروبا بدأت تنشر صور الفظائع التي حدثت وتنقل تفاصيل الجرائم التي ارتكبت.

وقد تحدث آخرون عن ضرورة الاهتمام في الوقت الراهن بتسجيل الوقائع وتوثيقها بالصور والتقارير الطبية وشهادات من بقي علي قيد الحياة، فهذه كلها أدلة ينبغي أن تتوفر، إن لم تنفع في أي جهد قانوني أو دعائي في الوقت الحاضر، فيتعين الاحتفاظ بها للمستقبل لإثبات بشاعة الجريمة الإسرائيلية، والتدليل علي مدي السقوط الأخلاقي ليس فقط من جانب الدولة العبرية، ولكن أيضاً من جانب «المتحضرين» الذين ساندوها وتستروا علي فعلتها.

أدري أن فرقاً طبية أوروبية ووفوداً صحفية وصلت إلي القطاع، ولست أشك في أن هؤلاء سينقلون إلي الرأي العام الغربي انطباعاتهم عما شاهدوه بصورة أو بأخري، لكن لدي اقتراحاً محدداً في هذا الصدد يتلخص في نقل نماذج من ضحايا المحرقة للعلاج في إحدي الدول الأوروبية، لكي يري العالم الغربي ما فعلته البربرية الإسرائيلية بهم، ولست أشك في أن بعض الدول العربية علي استعداد لتوفير طائرة خاصة لنقل وعلاج ما بين 20 و30 شخصاً، إلي جنيف أو باريس أو لندن أو أي عاصمة أوروبية أخري توافق علي استقبالهم، ولكي تصل الرسالة بشكل واف، يتعين أن يكون أولئك الضحايا من الذين شوهتهم الأسلحة المحرمة دولياً، الذين فقئت أعينهم وحرقت عظامهم وسلخت جلودهم وبترت أطرافهم.. إلخ. ذلك أن وجود هذه الشهادات الحية في قلب أوروبا من شأنه أن يفضح الجريمة ويصدم الضمير الغربي بما ينبههم إلي أن ما فعله الإسرائيليون بالفلسطينيين أفدح مما فعله النازيون باليهود، أما الذي فعلته بعض الأنظمة العربية بالفلسطينيين في هذه النكبة الجديدة فله حساب آخر

الدستور