في ظلال القرآن " أيه ومعني .. الجزء السادس والعشرون " - اعداد فريق " نافذة مصر " - سورة ق

المصدر : كتاب " ظلال القرآن " لـ المفكر الشهيد " سيد قطب " .  
من الاية 36 الى الاية 40
 
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
 
 
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا , فنقبوا في البلاد هل من محيص ? إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب . فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود . واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب . يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج . إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير . يوم تشقق الأرض عنهم سراعا . ذلك حشر علينا يسير . نحن أعلم بما يقولون , وما أنت عليهم بجبار , فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). .
 
ومع أن هذه اللمسات كلها قد سبقت في سياق السورة , إلا أنها حين تعرض في الختام تعرض جديدة الإيقاع جديدة الوقع . بهذا التركيز وبهذه السرعة . ويكون لها في الحس مذاق آخر غير مذاقها وهي مبسوطة مفصلة من قبل في السورة . وهذه هي خصيصة القرآن العجيبة !
 
قال من قبل:(كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود , وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع . كل كذب الرسل فحق وعيد). .
 
وقال هنا:(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا , فنقبوا في البلاد . هل من محيص)?
 
الحقيقة التي يشير إليها هي هي . ولكنها في صورتها الجديدة غيرها في صورتها الأولى . ثم يضيف إليها حركة القرون وهي تتقلب في البلاد , وتنقب عن أسباب الحياة , وهي مأخوذة في القبضة التي لا يفلت منها أحد , ولا مفر منها ولا فكاك:ف (هل من محيص)? . .
 
وعقب عليها بما يزيدها جدة وحيوية:
 
(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب , أو ألقى السمع وهو شهيد). .
 
وفي مصارع الغابرين ذكرى . ذكرى لمن كان له قلب . فمن لا تذكره هذه اللمسة فهو الذي مات قلبه أو لم يرزق قلبا على الإطلاق ! لا بل إنه ليكفي للذكرى والاعتبار أن يكون هناك سمع يلقى إلى القصة بإنصات ووعي , فتفعل القصة فعلها في النفوس . . وإنه للحق . فالنفس البشرية شديدة الحساسية بمصارع الغابرين , وأقل يقظة فيها وأقل تفتح كافيان لاستجاشة الذكريات والتصورات الموحية في مثل هذه المواقف المؤثرة المثيرة .
 
وعرض من قبل صفحات من كتاب الكون:(أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج , والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي , وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج). .
 
وقال هنا:(ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام , وما مسنا من لغوب). . فأضاف هذه الحقيقة الجديدة إلى جانب اللمسة الأولى . حقيقة: (وما مسنا من لغوب). . وهي توحي بيسر الخلق والإنشاء في هذا الخلق الهائل . فكيف بإحياء الموتى وهو بالقياس إلى السماوات والأرض أمر هين صغير ?
 
وعقب عليها كذلك بإيحاء جديد وظل جديد:
 
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود . .
 
 
وطلوع الشمس وغروبها ومشهد الليل الذي يعقب الغروب . . كلها ظواهر مرتبطة بالسماوات والأرض . وهو يربط إليها التسبيح والحمد والسجود . ويتحدث في ظلالها عن الصبر على ما يقولون من إنكار للبعث وجحود بقدرة الله على الإحياء والإعادة . فإذا جو جديد يحيط بتلك اللمسة المكررة . جو الصبر والحمد والتسبيح والسجود . موصولا كل ذلك بصفحة الكون وظواهر الوجود , تثور في الحس كلما نظر إلى السماوات والأرض ; وكلما رأى مطلع الشمس , أو مقدم الليل ; وكلما سجد لله في شروق أو غروب . .
 
ثم . . لمسة جديدة ترتبط كذلك بالصفحة الكونية المعروضة . . اصبر وسبح واسجد . وأنت في حالة انتظار وتوقع للأمر الهائل الجلل , المتوقع في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . لا يغفل عنه إلا الغافلون .