د. حمدي شعيب
(هاك ذراعي اليمنى يا مولاي أخرج خنجرك وابترها من عند كتفي؛ عندئذ سوف أبتسم وأشكرك إذا كانت هذه الوسيلة تجعلني أتفق معكم يا مولاي؛ بضمير هادئ مطمئن!).
تلك هي الكلمات القوية الرائعة التي أطلقها (سير توماس مور) أمام الملك (هنري الثامن) في القرن السادس عشر الميلادي؛ وهو رجل القضاء المحترم الذي كان يتمتع بقدر كبير من الذكاء والدهاء مثله مثل (سقراط) الذي تجرع السم تنفيذاً للقانون والنظام.
والذي كان يتمتع أيضاً بمنزلة اجتماعية راقية بين أصحاب النفوذ والثروة.
ولقد اختاره (وولسي) ليخلفه في منصب كبير القضاة.
ولما كان الملك (هنري الثامن) يريد أن يطلق الملكة (كاترين) ليتزوج من (الليدي آن) بحجة إنجاب وريثاً للعرش؛ فلقد ذهب إلى (سير توماس مور) بصفته كبير القضاة في بيته ليحصل على الإذن؛ فرفض أن يبيع ضميره!؟.
وظل شامخاً في موقفه الرافض أمام اختراق الملك لكل شرائح المجتمع المتنفذين؛ مثل البرلمان ورجال الجامعات ورجال الدين؛ بعد أن أخذ موافقتهم!؟.
بل وصل الأمر أن عنفه أصدقاؤه، ثم اخترقوا بيته؛ فاحتجت عليه زوجته!؟.
لكنه لم يقبل السقوط، وقدم استقالته وسلك أسلوب الصمت التام، واحتفظ برأيه سراً داخله؛ وتحدى بصمته سلطان الكنيسة والبابا، وسلطة الملك وزمرته!.
فقلب بصمته كل أرجاء أوروبا نظراً لمكانته الرفيعة، وبصفته الروحية القوية!؟.
ولكنه وقع في شبكة الغدر العنكبوتية رغم فصاحته وبلاغته؛ والتي أظهرها أثناء دفاعه عن نفسه أثناء المحاكمة الهزلية؛ واتهم بالخيانة وأنهى حياته بيده شامخاً تحت خشبات المقصلة!؟.
وغدا مثالاً خالداً لشموخ القضاء وثباته، وتحديه للسلطة والنفوذ والثروة.
وأصبح رمزاً للإنسان القدوة النقية، وعنواناً لطهارة القضاء كما يجب أن تكون!؟.
هذا هو خلاصة مسرحية شهيرة من أروع وأرفع أدبيات الأدب العالمي؛ وهي (رجل لكل العصور = A MAN FOR ALL SEASONS)، للكاتب الإنجليزي المبدع (روبرت بولت)، والتي خلدت تجربة (سير توماس مور)، وحفظتها للأجيال وللتاريخ، والتي ظلت تعرض لسنوات طويلة على مسارح (لندن) بل وفي كل أرجاء المعمورة!.
ما أشبه الليلة بالبارحة!؟.
تذكرت هذا الموقف الشامخ كما تذكرت سير عظمائنا الثابتين أمثال أحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام رحمهما الله.
ثم تذكرت قصة شموخ مستشارنا العظيم حسام الغرياني؛ وهو يواجه وجمعية تأسيس دستورنا كل هذه الأباطيل تفرزها آلة إعلامية جبارة جهنمية تقرع آذاننا وتزيغ أبصارنا ليل نهار!؟.
ومن قبله القدوة الراقية المستشار محمود الخضيري؛ الذي آثر الاستقالة حتى يمارس عمله السياسي بحرية ونزاهة.
ومن قبله المستشار عبد العزيز ونهى الزيني؛ ثبتهم الله وأحسن خاتمتهم ولا نزكيهم على الله.
فبرهنوا على أن هؤلاء العظماء السابقين لم يذهبوا ولم تنمحي تجربتهم؛ بل لم يزل بيننا رجال الطهر والثبات لعصرنا البائس ومرحلتنا المتردية الواهنة، نبراساً لنا وحجة على كل المتساقطين المتخاذلين!؟.
فما أشبه الليلة بالبارحة!؟.
فدوماً نجد شموخاً في أزمنة الانكسار!؟.
حتى لا يفسد الملح!؟:
وتذكرت صرخة أحد المربين الصالحين في اتباعه ناصحاً لهم ليستقيموا: (يا ملح الأرض لاتفسدوا، فإذا فسد الملح من سيصلحه؟!).
ونحن بدورنا نقول لقضاتنا كما قال هذا المربي؛ اثبتوا ولا تستسلموا لمن لوث ثوب القضاء الأسود بفساده وعفونته.
فأنتم للأرض كالملح الذي يمنع فسادها ويحفظها من العفونة، ولكن إذا فسد الملح والعياذ بالله فتلك الكارثة لأنه لن يجد ما يصلحه!؟.
فلا (تتزنددوا) متلازمة مرضية ولوثة أصابت رئيس نادي القضاة!؟.
فلا تخذلونا فيكم!.
قوتنا الناعمة وأدبياتنا عنوان مرحلتنا!؟.
وكما نعلم أن من القواعد والقوانين الحضارية الأساسية:
القاعدة الأولى: أن هيبة أي بلد أو أمة ـ حتى الأشخاص ـ؛ إنما تتأثر بقوتها الناعمة أي ثقافتها وأدبياتها ومواقفها ووضعها الاجتماعي غير العسكري!؟.
القاعدة الثانية: أن الأدبيات والحالة الثقافية لأي أمة ـ حتى الأشخاص ـ أنما هي عنوان للمرحلة الفكرية والحالة الاجتماعية التي تمر بها!؟.
أي هي إفراز للحالة المجتمعية والمناخ السائد!؟.
وتدبر هذه المعادلة: (مناخ مجتمعي ← إفراز ثقافي وإدبي وسياسي ← قوة ناعمة)
وإذا كان هؤلاء القوم قد نجحوا في تخليد رموزهم الرفيعة في أدبياتهم مثل (سير توماس مور)، فارتقوا وارتقت أدبياتهم، وارتقت بالتالي قوتهم الناعمة؛ أي الهيبة المؤثرة في الآخرين؛ فتحكموا في عقولنا وأفكارنا وسرنا نتأثر بهم وبأخلاقياتهم، ولكننا ـ للأسف ـ لا نحاكي أدبياتهم الراقية!؟.
وانظر حولك على أرفف المكتبات، وتأمل هذا الأفراز الثقافي الذي يعنون مرحلتنا المجتمعية!.
ثم ارجع البصر إلى ما يعرض على شاشات التلفاز؛ فهل ترى ما يشرفك كمثقف أو كمواطن مذهول من التردي الحضاري والثقافي الذي تمر به بلده وأمته!؟.
ولن أزيد من همومك فأقول استمع إلى هذا الغثاء والفن الرقيع؛ فماذا تفسر تلك الموجة الجارفة لتمجيد العنب والحنطور والحمار، و... (إيييييييه الشعبانية!!؟؟؟).
بل وبتخليد رموز شائهة مشوهة مثل العندليب وطابور الراقصات!؟.
الغرياني والخضيري وزويل ... على مسارحنا!؟:
ومنذ أيام شغلني حلم أقصد كابوس مرعب والعياذ بالله!؟.
فقد رأيت فيما يرى النائم على واجهة أحد المسارح الصيفية موجة من الإعلانات عن مسرحية كسرت حواجز التذاكر، وهالني طول الطوابير أمام منافذ بيع تذاكرها، واسمها: (أشجارنا ... تموت واقفة!؟). وبجوارها صورة كبيرة للغرياني والخضيري!؟.
فحملت حلمي المسكين وذهبت لصديق مسكين ليفسره لشخصي الحالم المسكين؛ فنصحني أن أكتم حلمي ولا أذيعه حتى لا أتهم بالتآمر الداخلي والرفض النفسي لمرحلة تمجد شموخ العندليب، وطهارة فاروق، وثبات ليلى وعظمة مجنونها، وخلود أسمهان، وإبداع (إييييييه)، والتجديد في أدبيات (الحنطرة والتحنطر)!؟.
بل قد يتهمونك بالدعوة للظلامية وإلى قلب نظام الحالة الثقافية والأدبية؛ بتقديم دراما تلفزيونية رمضانية قادمة أبطالها د. نهى الزيني، وطارق البشري، وأحمد زويل، ومحمد عمارة، والعوا, وبقية الرهط الظلامي الذي يدمر شبابنا، ويحطم ثقافتنا، ويلوث أدبياتنا، ويفسد أذواق مسارحنا، ويهبط بأغنياتنا!؟.
ثم قال مهدداً أكثر منه ناصحاً: أيها المسكين الحالم؛ كف عن أحلامك وإلا فأبشر بهجمة إعلامية ممنهجة وممولة تتهمك بأخونة المسرح!؟.
______________
[email protected]