بقلم - د. محمود مسعود - أستاذ الفكر الإسلامي بكلية دار العلوم :


في الرابع عشر من سبتمبر 2001 هبطت بنا الطائرة في باريس متأخرة ست ساعات عن موعدها، صعدت التاكسي تجاه محطة (كارد ليون) وقد فاتنا القطار، وكان علىً أن أنتظر مع طفل لم يكمل عامه الثاني وأمه حتى الصباح في صقيع شديد، فقط لأني من العرب المسلمين! فجميع فنادق باريس رفضت استقبالنا، لأن المسلمين دمروا برجي مركز التجارة العالمي منذ ثلاث ليال!!! وما كان أمامي إلا الصبر والدعاء، فساقت لنا يد الله الحانية عاملا جزائريا مسكينا، لا يعرف إلا اننا أخوة في الاتهام، فحركته شهامة مالك بن نبي وفتح لنا غرفة من غرفات حاجزي التذاكر حتى يشقشق نور الفجر، ولو كُشف أمره لفقد عمله، فحمدت الله أني أوذى بسبب المسلمين ولو لم يكن لهم ذنب، وأحتمي بكنف المسلمين ولو لم يكن لهم يد. ومنها عرفت أني مهما أصرخ بأني وأني فلست إلا مسلما، كالأسماك لا تُحمى إلا في بحر الإسلام، الذي فيه العذب والمالح والضار والنافع والصالح والطالح، وكُشف لي الغطاء الرابع، وقد كُشفت قبله غطاءات. فصار الأمل في المسلمين وحسب، فلم يعد يشغلني تعاطف غير المسلمين مع الإسلام من عدمه، وأدركت أهمية أي مسلم مهما كان، وعرفت قيمة قلب يعرف الله وإن كان له ناسيا، وعن جنابه مجافيا، ووعيت حديث أبي ذر: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.
فلما فتحت أعيني-المجهدة منذ حرب الخليج الأولى-صبيحة عيد الأضحى 30 ديسمبر 2006على تعليق رقبة العروبة في وسط بغداد، رغم أن صدام لم يحمل مع العروبة إلا إسلاما موروثا، إلا أني كنت في حاجة لأن أزرف دمعا كثيرا على رحيل هذه العروبة، بقية حلم قد سرى من أمامي، ولما عسعس ليل السابع عشر من ديسمبر2010 وأضاءت نار بوعزيزى شوارع تونس حلمت بلقاء العروبة والإسلام من جديد، فعاد إلي الأمل في رحيل الفصام بين الإسلام والعروبة، ورأيت شعاعه في طائرة بن على وهي تختفي شيئا فشيا، فتدحرج الأمل من قلبي إلى شفتي عصر الثامن والعشرين من يناير مناديا مع المصريين: الشعب يريد اسقاط النظام، لكنى ارتجلت ارتجال أجدادي: فرح يسبق العمل وعمل يسبق الفكر والتدبير، فأصبحت كالحصان يحمل أسفارا، فأعماني جري الحصان عن من يركبه، فكان من ركابه العسكر، والأمل يحدوني أن أصل بهم وبغيرهم إلى بر الأمان فهم مسلمون وطنيون!! ولو حذرني ألف من إخواني بأنهم ماكرون خادعون أوعملاء غربيون، لربما صببت عليهم نيران نيرون، فلما صدمتني محاولة ترشحيهم لسليمان تأكد لي أن منهم عدوا مبينا، وهنا ترجل الفارس وتذكر أن مسألة عودة الإسلام قضية جوهرية وليست نزهة خلوية، فالأعداء أكبر مما تخيلنا بكثير وإن منهم من كنا نعده لعدونا! 
فذهبت مذهب الواثق شكلا المتخوف موضوعا، فأمام الناس مبشرا مستبشرا، وأمام نفسي متخوفا مهموما، أي بأي إسلام ستسير أيها الجواد وعدوك يمتطي ظهرك؟ بل يراهن عليك ليكسب السباق؟ بإسلام الدراويش الذين غيبتهم مباخر المحافل عن سبب الحفل! وهم يضربون الدفوف ميلا ناحية اليسار واليمين حي حي .. حي حي! أم إسلام برهامي الذي يرى اليابانيين أكثر إسلاما من الأتراك لكونهم يمنعون الحجاب في مؤسساتهم واليابانيون يعملون بأخلاق الإسلام في مصانعهم! وأن(س)الليبرالي خير من (ص) الإخواني لأن الأخير يُلبس على الناس دينهم، أي موازنة خاطئة وأي جهل أسخف من هذا! أم بإسلام العوام:(عيش وعين وكنبة وتلفاز) وربما شيشة وسيجارة وشاي العروسة، ثم يفتحون عقولهم كاسات أو طاسات يصب فيها إعلام العدو والصديق ما يشاء، وتحركهم الأحلام بل الأوهام، ليصبح الواحدم نهم وهو متكأ على أريكته ثوريا فئويا بامتياز، مطالبا بنصيبه من مليارات رجال مبارك والذي سيعطيه هم رجال مبارك أنفسهم! فتذكرت قول الأستاذ الإمام محمد عبده: من ينتظر من الحكام أن يتنازلوا عما هم فيه طواعية فهو واهم. أه من الأحلام! أم إسلام الإخوان (العين بصيره واليد قصيره) أم إسلام الجماعات الإسلامية وأنصار الشريعة، (فالعين مبصرة واليد أقصر)ـ، والتجربة مريرة وأبو إسماعيل خير شاهد) فأمة أمريكية صهيو-غربية ستحكم الأزد وتميم! أوستحكم بجنسيتها الموأمركة عنوة، وتركيبتها الغربية قصرا قريشا وثقيف! عُجب وعُجاب صُبغ بشعب غاب!  
لكن الحق يقال ليس هناك حل ولا طريق يُرى، فكلنا قد أصابه العمش. سألني زميل حبيب إلي في مارس 2011: أهذه ثورة إسلامية، فاطرقت مليا ثم قلت هذه ثورة شعبية مصرية مخلوطة بكل ما هو مصري، وستصبح إسلامية بعد تضحيات، فنحن الإسلاميين جميعا لم نقدم فيها كل ما وهبنا الله من عقل وعمل بعد. فحيائه منى لم يجعله يستهزأ بي، فكان يرى مثل ملايين أنصار الشريعة: أن ثورة يناير ثورة إسلامية ولابد من تطبيق شرع الله، آه ثم آه! كنت أود أن افتح معه حورا عن أي شرع وأي تطبيق؟ أعلى أنفسنا بتشرذمها بعيدا عن مشروع واحد، أم على أم السعد وعم شحاته، أم بطريقة بني جهجهون؛ شرع الشارع وشارع في بطن الشاعر. 
سكتنا واستمرت الحكاية حتى ليلة إعادة انتخاب مرسي، إذ ناداني أحد مسؤولي حملته في مدينة أكتوبر ونحن نترقب النتائج من اللجان قائلا: أريدك أن تصارحني: أنستحق التمكيين، فأطرقت مليا وقلت: أنت تستحق ومثلي لا، قال أَبن، قلت كثير أمثالي سيركب شهوةَ طموحه، التي سيراها مشروعة بأن يكون ويكون....عمداء، غفراء، وزراء و.... أم أنت فلا تريد غير الإسلام تدفع مالا وجهدا منذ نعومة أظفارك وأنت الآن في الخمسين ولا تريد غير ضياء الإسلام يشع في الكون ويلمع، فمثلك يا طارق يستحق التمكين ومثلي لا يستحقون. وقال ومتى نستحق معاً وهو يضرب كفا بكف، فقلت بعد تضحيات حقيقية لا يملك الطامع أن يرفع عينه حينها. فبكى ونادى على الجميع أن نصلي ركعتين وصلينا. 
نجح مرسي وتركت مصر وأنا غير راض عن نفسي وتحججت بحجج المتكلمين وبراهين الفلسفة المتفيقهين، لكن السبب هو الخوف من المجهول: أيمكن أن ينجح مشروع اسلامي يحاربه المستشار ب .ج وهو الذي لا يفوته فجر، أينجح وبعض رجاله يريدون تطبيق الحدود قبل فهم المحدود، أينجح ويجافيه جمهور حسان وجماهير الحسين رضى الله عنه، أينجح  وأزهر ألف عالم في واد وهو في واد، أينجح وبعض الإسلاميين يحقد على نفسه، كل ذلك وعدوهم مختلف إلا عليهم وعلى دينهم، صداع لازمني عاما، فاستيقظت على الطاحونة تدهس عظامي: ولم يطحن عظمى الانقلاب، بل توقعات ما بعد. هل نعود إلى الوراء ستين عاما؟ أم ننتصر وتكون هي المحنة المنجية، هل هي نور أم نار، فأختي  تترقب النار وتصرخ، وأنا آمل في النور وأخشى تكلفته، فجاءت مذبحة الحرس ففقدت عمارا وفي رابعة فقدت سميرا، ومن هما أدركت أنها النور؛ لأنها أخذت قطفا من خيار الناس يمنع الطامع ويلجم المتعجل، ويفتح طريق المجد والعزة، فلا تمكين من غير ابتلاء كما قال الشافعي وهذا الابتلاء قد جل وحل.
وبدأت قاطرة الشهداء تحمل لنا النور يسرى في جسد الأمة، كل يوم يزيد الألم وتقترب الولادة، وفجر الضمير يستيقظ، ساعة تلو الأخرى، مع أننا نرى ملايين الناس بلا ضمير يقبلون القتل ويزغردون لسجن جار لهم، وهذا أيضا من نور التمحيص، واكتشفنا أننا أمة بجراح واحد، لا فرق أن يكون المكلوم فلسطينيا أو ليبيا أو مصريا أو عراقيا أو شاميا في بورما أو في الفلبين فالدم يسيل، وسيتأسس عليه حضارة جديدة بلا ريب، لكن كم من الوقت وكم من الشهداء وكم من الأموال ستنفق؟ أدركنا جميعا الآن أنه لا يهم. إنما الأهم أن الطريق قد ظهر جليا ومن كانوا يثبطوننا أضحوا في صفوف أعدائنا، فلم يعد جدوى لطريق المصالحة التي انتهجها الرئيس مرسي مع القديم، ولم يعد تحريم التكفير سبيلنا، فقد أصبحنا نحن الكفار بفتوى المفتي، ولم يعد يشغلنا تقارب العلمانيين واليساريين، فنحن قد امتطينا جيادنا ومن يرد أن تثكله أمه أو يُيتم ولده فليحق بنا، ولم يعد هناك أبطال غيرنا، فالكل امتطى جواد الهبل والخبل وساق الجبن وطأطأ الرأس، ولم تعد رسائلنا لإخواننا الشيعة أن الإسلام يجمعنا، بل إسلام السنة الواضحة هو طريقنا، وخرجنا من عنق الزجاجة، لكن بعد عام وبضعة آلاف من الشهداء وخمسين ألف مشرد ومثلهم من السجناء في مصر وحدها، وثبتت ملايين الناس ولن يلاحقنا عار انتظار سيف التتري بعد اليوم، بل سنقبل عليه سلميين، فإما كسر سيف التتري أو الموت بشرف. ومن هذه السلمية البسيطة واليقين المتين انهار حلف الشر أو كاد، فرغم تجالدهم سنينا ما عاد لهم صبر، وفتحت بطولات القسام الطريق ليتراجع المنافقون إن أرادوا، وهد أبناء الحجارة -وهم مستضعفون بين مطرقة الصهاينة والمتصهينة في ثلاثة عقود- كل أمل للغرب وللشرق في تغير وجهة الإسلام والمسلمين، لأنهم حولوا الحجارة إلى طير أبابيل، فما بالنا بمئة مليون على الأقل من المسلمين، لا يحصرهم مكان ولا ينقصهم وعي بقضيتهم، وقد بانت لهم وعورة الطريق، ودليلي لمن يطلب دليلا؛ انظر حولك ونادي في أي مكان يا أصحاب الشرعية، أو كن ابن مسعود واتلو سورة الرحمن. سيتدفق إليك على الأقل خمس المسلمين وسيسكت عنك نصف المسلمين، وسيؤذيك نصف العشر، لكنه أذى الجبان الذي تيقن بأنك إمتطيت الجواد وسار بك خطوات نحو الفتح.
من هنا أنادي أيها المسلم الحق واركب معنا لأنه (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح) ولا القاعدون غير أولى الضرر، ولا الخبيث والطيب، (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات). و(لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة) فهل من مشمر؟ فالأمة تتهيأ لأمر جلل سنكشف في المقال القادم بمشيئة الله تعالى كثيرا من دلائله والتي منها : انحصار قومية بشار، فلن تعود سوريا كما كانت جعجعة بلا طحن. ولن تسمح ليبيا بمجنون يحكمها أربعين، ولن توصد مساجد تونس، ولن تعود مصر مبارك أبدا، ولن يعود الوطن العربي يشجب ويدين، فالشاجبون أضحوا أولياء لبني صهيون.