بقلم - عزت النمر :


الأحداث التي لحقت بجماعة الإخوان المسلمين ومازالت وأحكام الإعدامات التي صدرت بحق قادتهم ومرشدهم جعلت البعض يرى خاتمة غير سعيدة تكتب هذه الأيام لفكرتهم ودعوتهم ,ويترقب في قابل الأيام صلاة جنازة مهيبة لتنظيمهم وحركتهم. 

مِنْ هؤلاء من يرى أن الإخوان قد انتحروا حينما ركبوا موجة أكبر من قدرتهم وأنهم ألقَوا بأنفسهم في بحر شديد العمق متلاطم الأمواج أعمق على سفينهم وأخطر من تنظيمهم. ومنهم من يرى أنها ليست بأيديهم ولكنها ضريبة نُبل غايتهم وحُسن نيتهم مقابل غدر زمانهم وخذلان شعوبهم.

دورة الزمان العنيفة التي أقبلت على الإخوان المسلمين دعوة وفكرة , وتنظيماً وحركة , وقيادة وأنصاراً , فرضت سؤالاً مستحقاً بشأن حاضر الإخوان ومستقبلهم , وإلى أي مدى ستكون تداعيات هذا الدورة العنيفة على من صنعوا الأحداث حيناً أومن شاركوا فيها كثيراً ؟!.

نقطة جديرة أن تُذكر أنه لم تحقق دعوة ولا فكرة ولا تيار ولا حزب في مشرقنا العربي ما حققته جماعة الإخوان المسلمين منذ أن ظهرت وحتى تاريخنا المعاصر , حتى يمكن القول أنهم ظلوا طوال تاريخهم القريب والبعيد كتلة المعارضة الصلبة الوحيدة المؤثرة في أحداث الواقع المصري, في مقابل هياكل كرتونية وألقاب بلا واقع ونظريات بلا أتباع وأحياناً لِحَى بغير هُدى ومشايخ بغير دين , لايجاوزهم أو ينافسهم في الوجود والأثر إلا الأنظمة والسلطات بهياكلها الحكومية العميقة وبيادات عسكرهم الثقيلة وتيار من أصحاب المصالح وحملة المباخر ومنافقي السلطة.

حراجة الظرف وشدة اللحظة الراهنة والمحنة التي تعانيها جماعة الإخوان المسلمين لم تضطرها أن تفرط في دورها ووجودها , ولم تجبرها أن تتنازل عن شموخها وكبريائها , ولا أبَعدتها عن كونها مثيرة للجدل , بل أنها بلغت في ذلك حداً غير مسبوق , ومازالت تأخذُ الأبصار داخلياً وإقليمياً وربما دولياً في مشهد يضاف لحضورهم الطاغي وتأثيرهم القوي وثقتهم في قضيتهم العادلة.

المصريون كعادتهم يملكون سجلاً مليئاً بالمتناقضات وكذلك هو موقفهم تجاه الإخوان المسلمين , فالإخوان في ذاكرة المصريين هم أطيب الناس وأنفعهم للناس , وهم أصحاب أيادي بيضاء على الواقع المصري تاريخاً وحاضراً , وهم أهلٌ لإصلاح ما أفسدته الحكومات والحكام على مدار تاريخ مصر الحديث , وأن ما يحدث لهم ليس إلا لكونهم دعاة الحرية والكرامة ومحاربي الفساد وكاشفي زيف الأنظمة والعسكر والقضاء والاعلام.

على الجانب الآخر هناك من المصريين من يكرهون الإخوان فكراً ويحقدون عليهم تنظيماً ويتمنون زوالهم وجوداً , أولئك يناصبونهم العداء إما لكونهم خطراً على مصالحهم أو لطبيعة خلافات فكرية من النموذج الغربي وأهليته للتنفيذ والاقتداء أو استحضاراً  لملفات عقائدية أو طائفية. 

الإنقلاب العسكري وقادته لم يجدوا ما يقدمون به أنفسهم للداخل والخارج إلا أنهم حائط صد لجماعة الإخوان المسلمين ومشروعهم وفكرتهم,  الواقع على الأرض كشفت عن مواجهة شرسة وإسراف في القتل غير رحيم , وحرق بتشفٍ في مشاهد روعت  العالم في رابعة والنهضة وغيرها مما ترك انطباعاً عن حجم الحقد والكره الذي يضمره النظام العسكري في مصر للإخوان وحركتهم وتنظيمهم بل ومؤيديهم , الصورة تكتمل بكم السجن والاعتقال والتشريد الذي فاجأت به الداخلية المصرية وأجهزتها المختلفة فعاليات الإخوان ومظاهراتهم السلمية وتعبيرهم عن الرفض لما يجري. 

القضاء المصري في نسخته الحالية تخلى عن مهنيته ومبادئه , وألقى بثقله في المواجهة , وأسرف في مسلسل أحكام الاعدام الذي بدأ ولا ندري متى ينتهي , ولا إلى أي مدى يصل؟! , قل مثل ذلك عن الإعلام ومؤسساته بعد التهذيب , وطبعاً الأزهر والمؤسسة الدينية الرسمية ليست من ذلك ببعيد , أضف الى كل ذلك الدولة العميقة في تنسيق كامل وأوركسترا دامية ودرامية يعزف لحنها ويقود فرقها المخابرات العامة والحربية.

على الصعيد الخارجي الإقليمي وخاصة في الخليج فالعداء للإخوان المسلمين بات سافراً يغذيه الخوف من إنتشار "إسلامهم" الذي يرى الحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه ويعتبر الحاكم أجير لدى الأمة , وهذه الأفكار لم تكن متداولة في ثقافة الشعوب الخليجية الوادعة وليست من تراث الإسلام "الأليف" الذي تريده وتتبناه العائلات المالكة التي ترى في ذلك ما يهدد عروشها وينسف مستقبلها.

الغرب بشقيه البعيد ممثلاً في أمريكا والقريب ممثلاً في الاتحاد الأوروبي رأى في صعود الإخوان المسلمين إستفاقة لخطر المارد الإسلامي العظيم الذي بدأ يتململ في المشرق العربي وفي إفاقته عصفٌ كامل بالمصالح الاستراتيجية الغربية في كل مكوناتها ونسف نهائي لأحلامها وطموحاتها فضلاً عن النهاية الوشيكة التي يحملها قيام هذا العملاق لربيبتهم اسرائيل.

هذه الحرب الضروس التي لم تبق من جهد ولم تذر من قوة أو عنف ــ داخلياً وخارجيا ــ في مواجهة الإخوان المسلمين تترك في النفس شعوراً بمشهد النهاية الحزينة لفكرتهم والظلال السوداء لحركتهم والختام الكئيب لتاريخهم والفناء التام لقادتهم وأتباعهم ,ويعيد الى الأذهان صور من مواجهات عبد الناصر والعسكر لهم في خمسينات وستينات القرن الماضي لكن بصورة أقسى وبتصميم أشد.

بعد كل ما سبق لابد من عودة للسؤال الأول ولكن بصيغة أعمق وبتفصيل أدق .. ماذا تبقى للإخوان في المشهد ؟ وما لهم من حظوظ ؟ وهل بقي لهم بقية من مقاومة ؟ وهل مازال في جعبتهم من قوس أو سهم يدفعون به عن أنفسهم ؟ والى أي مدى يمكنهم مواجهة هذا الطوفان العنيف وذلك التسونامي العاتي والإعصار المدمر؟؟!.
كل ما ظهر في الصورة مما سبق صحيح مائة بالمائة ولكن في الصورة منحنيات يجب أن نتوقف عندها وعروج كثيرة يجب أن تقرأ ورتوش ليس من الانصاف إهمالها لمن يريد أن يخرج بنتائج كاملة حقيقية قد تختلف عما يبدو للوهلة الأولى للمقدمات الحالية.

ثمة اختلافات كثيرة وعميقة بين خمسينات وستينات القرن الماضي وبين يومنا الذي نعيشه وغدنا الذي ننتظره , فطبيعة انقلاب اليوم يختلف كلياً عنه بالأمس , وكاريزما عبد الناصر لاشك تختلف عن بله السيسي وهطله وغبائه , فضلاً عن آثار وحيوية نموذج ثورة يناير كنموذج نجاح مازلت تنبض في نفوس شباب يهتف بالأمل , وجماهير وأتباع يواجهون الدبابة والبندقية بغير ما كان يحمله المصريون في ماضيهم حينئذ , ضف على ذلك ما نعيشه من وسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي لم يتوفر مثلها يومها , فضلاً عن كم الخبرة والتجربة التي يملكها الإخوان من أحداثهم القديمة , ولا ننس الفارق الكبير في حجم الإخوان كماً وكيفاً وانتشارهم كمركز قوى وتأثير يجعل الحديث عن إفنائهم ضرباً من الهذيان جامح وخَبل غير مردود .

ثمة حقيقة أخرى لا تغيب عن المشهد ألا وهي ان الإنقلاب خلال سنتهِ الماضية حطم أصنامه بغباء أو من غير قصد , فالقضاء فقد شموخه في نفوس المصريين والعالم , والاعلام فقد بريقه وحجته وانصرف عنه كثير ممن كانوا به مفتونين, والأزهر ومؤسسته وشيوخه لا أقول أصبحوا هم وحزب النور سواء لكن لا بأس ان وضعناهم وحزب النور والكنيسة في سلة واحدة تحمل شعار الثالوث غير المقدس .. أما عن الجيش المصري العظيم فحدث عن عظمته اليوم في نفوس المصريين ولا حرج. 

في مقابل ذلك كله الإخوان المسلمون وفكرتهم ودعوتهم يحصدون كل يوم تأييداً عجيباً جعل منهم نموذجاً للقوة والثبات والصمود لدى قطاعات واسعة من المصريين . هؤلاء ينظرون للإخوان على أنهم رموز إسلامية واعدة في وقت تخلى فيه وتهاون الكثير ,ويرون فيهم دعاة الديمقراطية الحقيقيون يوم أن كفر بها كثير من الليبراليين من عرب وعجم , بل ويرونهم رمزا للرجولة والعزة والكبرياء في زمان توارت فيه تلك القيم أو تكاد.

تلك القطاعات منها من يخرج في فعاليات الإخوان ويرفع راياتهم ويلقى مصيرهم , ومنهم من يكتم موالاتهم وينتظر اللحظة التي يكسر فيها خوفه وقعوده ليقدم هذا اللحظة عذراً لهم عن كل تأخير أو تردد.

التأييد والاعتزاز والتقدير لرجال الإخوان وشبابهم ونسائهم تعدى الداخل المصري ليكَّون كتله عربية بل وفي مشرقنا كله تتابع ما يجري في مصر وتتفاعل معه صمتاً حيناً وأنيناً حيناً , ما ينذر بعودة وشيكة للأمة من محيطها الذي كان هادراً الى خليجها الذي قد يثأر غداً أو بعد حين.

لا ننس في هذا السياق ما أحدثته حرب غزة وما قدمته كتائب حماس من أتباع الإخوان المسلمين وأحفاد حسن البنا من مفاجآت وروائع قدمت دعوتَهم لأحرار العالم العربي والإسلامي وجزء من أحرار العالم على أنها دعوة العزة والكرامة , وأنها تستحق أن تكون دعوة البطولة والفداء ومحط الأمل ومعقد الرجاء لكل حالمِ بالنصر أو متشوق للتمكين وأو راغب في مجد قريب للأمة أو رفعة للوطن.

أعتقد أننا في مرحلة تدافع شديد بين الإنقلاب كماضي يُهزم ومستقبل واعد منتصر للإخوان ومشروعهم وشرعيتهم , وهدم لسايكس بيكو وكامب ديفيد وكل رموزهما الشائهة الكريهة وبناء مجد تليد قريب مبشر لأوطاننا.. وأننا بين ليل دامس ينقضي أجله وفجر زاهر بدأ خيطه الأبيض أن يتبين وينكشف ..

وحينئذ ستَرفعُ الشعوب راية الإخوان المسلمين , ويهتفون بهتافهم ويعلنون أنهم حقاً كانوا ولازالوا .. قومٌ عمليونْ.