محمد منصور

إن مَنْ يستطيع إقناع المرأة بقضيته فلا تسل عن نجاح فكرته، و لهذا كان الشيوعيون ـ من قديم ـ يقولون: عندما تنضم امرأة إلى الحزب؛ فإنها تعادل مائة رجل، و الحق ما نطقت به الأعداء؛ إذ من مميزات المرأة أنها عندما تبدأ في مشروع لا تتركه حتى و لو كان خاسرا؛ فهي تتعامل معه كأنه طفلها، فما بالك كان حقا واجبا.

و آية ذلك ما شهده الحراك الثوري المحتدم من موكب الحرائر الثائرات، الذي يحمل لنا أمثلة للعطاء، و نماذج للصبر و تحمل أعباء الكفاح و الاستشهاد في سبيل نصرة الحق، و الصدق في المواقف، و الإيمان بالله الذي يفوق الوصف، و التضحيات التي لا تقل عن تضحيات الرجل الثائر الحر.

فراحت تؤدي دورها في مناهضة الانقلاب، و تخوض آلام الكفاح، صابرة محتسبة راضية؛ لا ينبض عندها عرق بلين أو خوف، و بصدرها الرحب تستقبل العواصف؛ فكان من نصيبها الجزء الأكبر من التضحية، جنبا إلى  جنب الرجل الثائر الحر؛ استجابة لداعي الحق و الكفاح؛ فغدت ضربا فريدا من البطولة و الرجولة؛ إذ الرجولة ثبات، و قدرة على الوقوف أمام المكاره.

و اذكروا لنا مشهدا غابت فيه المرأة عن المشهد الثوري؟؛ فهي الثائرة الباسلة، ثابتة الجنان، لا تعرف الخوف، و لا تخلع الحوادث فؤادها، و هي الأم و الأخت و الابنة و الزوجة ؛ التي تهرول و تدفع رجلها الحر إلى ميدان النضال؛ حتى أصابها ما أصابها من أوجاع و آلام نفسية و مادية؛ جراء إصابته أو استشهاده أو اعتقاله أو مطاردته، إضافة إلى ما أصابها من الشتم و السحل و الضرب و الاعتقال و الاستشهاد.

و لكن بصمودهن أبهرن العالم؛ و كفي أن تعلم كم من بنات ضعاف استطعن بقليل من الإصرار و الإيمان ألا يتراجعن قيد أنملة عن نصرة الحق، وأن يخترق صوتهن الواهن هذا الهدير الصاخب، و أن يمرغن كبرياء الانقلاب في الوحل، و أن يجعلنه يشعر أمامهن بمهانة الذل و الغيظ المشتعل.

في مقابل عبيدات البيادة و المنجذبات و مَنْ يعرضن أنفسهن ملك يمين، إضافة إلى السلوك المخجل مِمَّنْ رقصن بلا حياء في الشوارع أو من تنتظرن غمزة عين؛ ذلك أن الانقلاب لا يبالي أن تصاب المرأة من شعبه في أخلاقها و ترزأ في روحها و قلبها.

فأين هؤلاء ممن تقرأ في عيونهن رغبة أكيدة في التضحية و الصبر عليها؟!، و قد استحالت شعلةً من حماس يتقد، و كتلة زاخرة من التضحية و البذل؛ يتمثلن دور أسماء بنت أبي بكر و هي تشارك في ترتيبات الهجرة، و دور نسيبة بنت كعب و هي تحمي النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يوم أُحد بسيفها، و دور عائشة بنت أبي بكر العالمة الفقيهة السياسية.

فتحية إجلال و إكبار و تقدير لَكُنَّ أيتها الثائرات؛ يا مَنْ فُقْتُن الخنساء بطولة و شجاعة، ووصلتن إلى بطولات الصحابيات في صدر الاسلام، و لا أكون كاذبا إن قلت: إنكن ستنافسهن بتضحياتكن على الحوض إن شاء الله.

و ختاما أهديكن حكاية امرأة أحيت أمة، يحكيها الأستاذ" حديبي المدني" في مقاله "الرواحل زاد و صفات"، و هي  قصة امرأة، اسمها "ميسون"، أيام محنة هجوم الصليبيين كالطوفان المدمر، وبعد استشهاد إخوانها الأربعة في جهادهم المقدس.

و لكن ماذا يمكن أن تفعل امرأة عزلاء في مواجهة هذه الجحافل؟!!

نعم...إنها امرأة وحدها.. لكنها امرأة صاغها الإيمان خلقا آخر.. فقلبت الموازين، وأدارت دفة الأمور.. وغيرت مجرى الأحداث.. وحركت التاريخ.

جمعت النساء اللاتي حضرن يواسينها ويعزينها؛ وقالت لهن: إننا لم نخلق رجالا نحمل السيوف.. ولكن إذا جبن الرجال وأخلدوا إلى الأرض .. وتمرغوا في الوحل والطين.. هذا والله شعري ، أثمن ما أملك ، أنزل عنه؛ أجعله قيدا لفرس تقاتل في سبيل الله، لعلي أحرك به هؤلاء الأموات.

وأخذت المقص فجزت شعرها.. وصنع النساء صنيعها.. ثم جلسن يضفرنه لجما وقيودا لخيل المعركة الفاصلة، لا يضفرنه ليوم زفاف أو ليلة عرس..

وأرسلن هذه القيود واللجم إلى خطيب الجامع الأموي، سبط ابن الجوزي، فحمله إلى الجامع يوم الجمعة.. وقعد في المقصورة.. وحبس هذه اللجم والقيود بين يديه، والدمع يترقرق من عينيه .. ووجهه ممتقع شاحب،.. ثم قام وخطب خطبة حروفها من نار.. تلذع أكباد من يسمعها.. وكلماتها سجر.. فكانت إحدى المعجزات البلاغية الساحرة الباهرة التي يهدر بها كل عصر مرة لسان محدث، أو يمشي بها قلم ملهم.. كرامة من الكرامات وواحدة من خوارق العادات، وإنما حفظ الرواة جملا منها نقلوها إلى لسان الأرض .. وكان مما حفظوا:

يا ويحكم .. أما يؤلمكم ويشجي نفوسكم مرأى عدو الله وعدوكم .. يخطو على أرضكم التي سقيت بالدماء الزكية الطاهرة.. يذلكم و يتعبدكم .. وأنتم كنتم السادة والقادة..؟!

 أما يهز قلوبكم وينمي حماستكم، أن إخوانا لكم قد أحاط بهم العدو، وسامهم ألوان الخسف؟!

أفتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يتسربلون باللهب ويخوضون النار.. وينامون على الجمر..؟!

يا أيها الناس: إنها قد دارت رحى الحرب، ونادى منادي الجهاد.. وتفتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب، فأفسحوا الطريق للنساء يدرن رحاها، واذهبوا فخذوا المجامر والمكاحل.. أو فإلى الخيول، وهاكم لجمها وقيودها.. أتدرون مم صنعت؟

لقد صنعنها النساء من شعورهن .. لأنهن لا يملكن غيرها يساعدن به فلسطين..

هذه والله ضفائر المخدرات التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحياء وحفظا.. قطعنها ..لأن تاريخ الحب قد انتهى...وابتدأ تاريخ الجهاد المقدس.. فإذا لم تقدروا على الخيول تقيدونها بها، فخذوها فاجعلوها لكم ذوائب وضفائر.. إنها من شعور النساء.. ألم يبق في نفوسكم شعور؟!

وألقاها من فوق المنبر على رؤوس الناس وصرخ :

تصدعي يا قبة النسر.. وميدي يا عمد المسجد.. وانقضي يا رجوم.. لقد أضاع الرجال رجولتهم!

فصاح الناس صيحة ما سمعوا مثلها.. ووثبوا يطلبون الموت ويصنعون الشهادة..

فجاء النصر والفتح على يد امرأة واحدة أيقظت أمة نائمة.. بل خامدة هامدة جامدة.. ونفخت فيها الروح والحياة!

ونحن نقول اليوم:

إن التمكين للحق .. وكسر الانقلاب.. ونصرة قضايا الأمة.. لا يتم إلا بإيجاد نساء شبيهات بميسون.. ورجال من أمثال سبط ابن الجوزي.. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب..

وبإذن الله مكملييييين.