سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط

 

شهدت محافظةُ الإسكندرية (شمال مصر) واقعةً نادرةً مليئةً بالدلالات، إذ أُوقف قبل أيام مسؤولُ محلّي كبير تنفيذًا لحكم بالسجن صادر بحقّه. ولا يقتصر وجه الإثارة في تلك الواقعة على صدور حكم قضائي بحقّ مسؤول عام، وتوقيفه وهو في عمله رئيسًا لأحد أحياء الإسكندرية، وإنما لأن الحكم صدر غيابيًا قبل ثلاثة أعوام، ولم تنفّذ الأجهزة الأمنية المتخصّصة القبض عليه تلك الفترة كلّها، بل الأدق أنها لم تحاول، إذ لم يكن المسؤول مختفيًا ولا هاربًا، بل تنقّل بين مناصبَ تنفيذيةٍ لا تقلّ أهميةً عن آخر مناصبه، إلى حدّ أنه أُوقف بعد تولّيه منصبه الجديد بيومَين فقط.

في هذه الواقعة مؤشّر بالغ الدلالة لجهة الفساد الضارب في المحلّيات والدوائر التنفيذية، والخلل الفادح في كفاءة بعض رجال الشرطة، إن لم يكن في نزاهتهم. بالنسبة إلى الفساد في المحلّيات والدوائر الحكومية فليس جديدًا أن يُدان مسؤولون وموظّفون عامون في مستويات مختلفة بالفساد، بل هو أمر محمود يدلّ على اضطلاع أجهزة الرقابة على الأداء الحكومي في الأعوام الماضية بدور متزايد في تجفيف منابع الفساد ومكافحته، وهو ما تم بالفعل في الواقعة المشار إليها. لكن الجديد أن يحاكَم الفاسد ويُدان ويُحكم عليه بالسجن، ثمّ يستمرّ في عمله، بل ويتنقّل من موقع إلى آخر. فلسبب غير معلوم، أُخلي سبيل المسؤول المتهم في قضية رشوة مثبّتة في تسجيلات مرئية. ولسبب غير مفهوم، جرى انتدابه إلى عمل قيادي بالمحلّيات بعد صدور الحكم القضائي بإدانته (!). ولسبب ثالث أكثر غموضًا، رُقّي وكُلّف برئاسة أحد أحياء الإسكندرية!

الأمر إذن ليس مجرّد تقصير من شخص بعينه أو من جهة ما في أحد المواقع المحلّية، وإنما هو تآزر للفساد، إذ يحمي بعضه بعضًا. والنتيجة إخلال بالمسؤوليات، وتجاهل لمعايير الاختيار، وانتهاك للعدالة، وإهدار لسيادة القانون، وتضييق لفرص واحتمالات مساءلة الموظّفين العموميين، خصوصًا أولئك المحسوبين على مؤسّسة القوة الخشنة، إذ لا مجال (ولا جدوى) من التساؤل عن أي سلطة تلك التي تكفل تمكين مسؤول مُدان قضائيًا من تولّي مناصبَ تنفيذية مهمة في دوائر محلّية مهمة في مواقع ومحافظات عدة. ويجب هنا التوقّف عند دور الأجهزة الشرطية في ما جرى. فمنذ عقود، تشهد مصر تضخّمًا في الدور الأمني، وتغوّلًا مستمرًّا في مناحي الحياة كافّة، بل وافتئات على أدوار جهات كثيرة وصلاحياتها في أداء مهامها. ورغم ذلك كلّه، لم تتحرَّ الشرطة (بقدراتها المتزايدة وأقسامها المعنية) وتلاحق المطلوبين وتنفّذ الأحكام، في أي من تلك المهام.

ولمّا كان المسؤول المدان قد تنقّل خلال الأعوام الثلاثة، التي مرّت منذ صدور الحكم القضائي ضدّه، فمعنى ذلك غياب التواصل والتبادل المعلوماتي بين أجهزة الدولة ومؤسّساتها، بما فيها القضاء والشرطة على مستوى الجمهورية، أو هذا ما يبدو على الأقلّ من ظاهر الواقعة.

وما يدعو إلى الذهول بالفعل أن طبيعة عمل المسؤولين المحلّيين، وبصفة خاصّة رؤساء الأحياء، تقتضي بالضرورة التعاون مع الشرطة وملازمة رجالها في الأعمال التنفيذية الخاصّة بالأحياء. ما يعني أن المسؤول المدان بأحكام قضائية كان يقوم بعمله، ويمارس حياته الطبيعية، ليس تحت أعين رجال الشرطة فقط، وإنما بالتعاون الوثيق والتنسيق الكامل معهم يوميًا. قد يقول أحدهم إن الرجل خضع لتوقيف بالفعل بعد يومين من تولّيه منصبه الجديد، وهذا يُحسب لرجال العدالة وتنفيذها أيًّا كانت الملابسات السابقة. وهذا صحيح، لكن هذا بذاته يكشف سلبيات واختلالات أعمق، مناطها أن الأمور تخضع في النهاية لسطوة من يملك القرار وأدوات تنفيذه، إن سمح بذلك، أو تعطيله إن أراد.