كادت قمة شرم الشيخ للسلام، التي دعت إليها مصر لمناقشة تداعيات الحرب على غزة وإرساء مسار سياسي لوقف إطلاق النار، أن تنهار قبل أن تبدأ، بعد أن تفجّرت أزمة دبلوماسية حادة كشفت عمق الانقسامات داخل الإقليم، وحدود النفوذ الأمريكي في المنطقة.

الأزمة اندلعت عندما تسرّبت أنباء عن نية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المشاركة في القمة، وهو ما قوبل بتهديدات حازمة من كل من تركيا والعراق بالانسحاب الفوري إذا تأكدت مشاركته، ما وضع القاهرة – الدولة المضيفة – في موقف حرج، وخلق توتراً غير مسبوق بين العواصم المشاركة.

 

ضغوط تركية وعراقية غير مسبوقة

منذ الساعات الأولى للتحضير للقمة، اتخذت أنقرة وبغداد موقفاً صارماً. فقد نقلت وكالة الأنباء العراقية عن مصدر رفيع أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أبلغ القاهرة وواشنطن بأن "العراق سينسحب من القمة فوراً في حال حضر نتنياهو"، مؤكداً أن هذا موقف "غير قابل للمساومة". ووفق المصدر نفسه، لم يكن العراق وحده في هذا الاتجاه، إذ أبدت عدة وفود عربية تحفظات مشابهة، ما شكّل جبهة رافضة لأي حضور إسرائيلي تحت غطاء “السلام”.

أما على الجانب التركي، فقد كانت المواقف أكثر دراماتيكية. إذ أكدت تقارير أن الرئيس رجب طيب أردوغان أصدر تعليماته بالاستعداد للانسحاب الفوري والعودة إلى أنقرة فور تسرّب خبر مشاركة نتنياهو. وذكرت وسائل إعلام تركية أن الطائرة الرئاسية انحرفت فعلاً عن مسارها قبيل الهبوط في شرم الشيخ، قبل أن تعود إلى مسارها الطبيعي بعد تأكيد القاهرة أن نتنياهو لن يشارك. هذه الخطوة، التي وُصفت بأنها “ضغط سياسي محسوب”، أظهرت أن أنقرة كانت مستعدة لنسف القمة بأكملها لمنع التطبيع الرمزي مع إسرائيل وسط الحرب المستمرة في غزة.

 

تدخل ترامب ومحاولات أمريكية للضغط

في ذروة التوتر، برزت مفاجأة أخرى حين كشفت مصادر دبلوماسية عن دور غير رسمي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي حاول استغلال علاقاته السابقة مع نتنياهو لإقناعه بالمشاركة، على أمل أن يمنح القمة بعداً سياسياً جديداً يخدم “رؤيته القديمة للسلام” على غرار اتفاقيات أبراهام.

لكن مساعي ترامب اصطدمت بجدار الرفض الإقليمي. فمصر، رغم رغبتها في إنجاح القمة وجمع الأطراف المختلفة، رفضت توجيه دعوة رسمية لنتنياهو، واكتفت بالقول إن حضور أي طرف يجب أن يحظى بقبول جماعي. هذا الموقف أحرج واشنطن، التي كانت ترغب في اختبار إمكانية إعادة نتنياهو إلى الطاولة بعد انتهاء العمليات في غزة.

 

انسحاب نتنياهو وتبريرات واهية

وفي نهاية المطاف، جاء الحل من تل أبيب نفسها. فقد أعلن مكتب نتنياهو أنه لن يشارك في القمة، مبرراً ذلك بقرب موعد الأعياد اليهودية، وأن الدعوة جاءت “من الرئيس ترامب وليس من مصر”. وسرعان ما تبنّت القاهرة هذا التفسير الرسمي لتجنّب المزيد من الإحراج، مؤكدة أن الاعتذار الإسرائيلي “جاء لأسباب تتعلق بالمواعيد الدينية”.

لكن خبراء ومحللين رأوا أن هذه المبررات ليست سوى غطاء دبلوماسي لانسحاب اضطراري. فنتنياهو، وفقاً لتقديرات سياسية إسرائيلية، أدرك أنه سيواجه عزلة خانقة داخل القاعة، وربما مقاطعة علنية من وفود عربية وإسلامية وازنة، الأمر الذي كان سيشكّل ضربة لصورته الدولية ومحاولة بلاده الخروج من عزلتها بعد حرب غزة.

 

دلالات سياسية عميقة

رغم انعقاد القمة في موعدها، فإن الأزمة التي سبقتها تركت آثاراً واضحة على المشهد الدبلوماسي الإقليمي. فقد كشفت عن أن الرفض الشعبي والرسمي للتطبيع مع إسرائيل لا يزال قوياً، وأن محاولات دمجها في المنطقة عبر مشاريع "السلام الاقتصادي" أو "الاستقرار الإقليمي" لا يمكن أن تنجح في ظل استمرار الجرائم ضد الفلسطينيين.

كما أكدت الأزمة محدودية قدرة واشنطن – حتى عبر رموزها السابقة مثل ترامب – على فرض أجندتها في الشرق الأوسط، بعدما تراجعت مكانتها كوسيط مقبول. أما مصر، فقد وجدت نفسها مضطرة للموازنة بين دورها التقليدي كـ"وسيط سلام" وبين حساسيات الشارع العربي الذي يرى في حضور نتنياهو إهانة لدماء المدنيين في غزة.

في النهاية، أنقذ انسحاب نتنياهو القمة من الانهيار، لكنه فضح هشاشة الخطاب السياسي حول "السلام"، وأكد أن الطريق إلى استقرار حقيقي في المنطقة لا يمر عبر قاعات المؤتمرات، بل عبر عدالة للقضية الفلسطينية واحترام إرادة الشعوب التي ما زالت ترفض التطبيع تحت أي مسمى.