محمد منصور
حينما ننظر إلى عطاء الصحابة للإسلام، ثم نقارنه بعطائنا، ندرك أنهم كانوا قمة في الإيمان، و أعلي كعبا في الأداء والتضحية؛ حتى كدنا ننسى أنهم بشر مثلنا؛ لديهم مشاكل تؤرقهم، و طموحات في الحياة تراودهم.
بل إن كثيرا من المسلمين قد ظنوا أن الصحابة كانوا في رغد من العيش، ميسرةً حياتهم ولذلك سعوا في الدعوة و الجهاد؛ مبرراً لنفسه انسحابه من ميدان الجهاد و الكفاح أو قلة عطائه.
مما يدفعنا إلي أن نسائل أنفسنا: كيف قهر الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أعذارهم؟؟؟، رغما عن بشريتهم التي نتقاسمها معهم، إضافة إلى أن كانت لهم مشاكل كمشاكلنا و طموحات كطموحاتنا في الحياة.
و بقراءة يسيرة في كتب السيرة و التراجم؛ نجد أن السواد الأعظم من الصحابة قد كانوا فقراء؛ يبحثون مثلنا عن لقمة العيش، حتى أن عدياً بن حاتم الطائي ـ وهو حينئذٍ من الطبقة الحاكمة ـ قرأ رسولُ الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في نفسه سبب عد م حماسته للدخول في الإسلام، فقال له: لعل الذي يمنعك من الإسلام أنك تقول : إننا ضعفاء فقراء خائفون !!
و هذا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ شاب قد تَحمَّل من بعد استشهاد أبيه دُيوناً واجبا سدادها وتسع أخوات يقوم علي إعالتهن، و تتوق نفسه إلى الزواج، فماذا فعل ليواصل الجهاد مع رسول الله صلي الله عليه و سلم؟
لقد عمل ليعول أخواته، بل الأعظم أنه قد تنازل عن مواصفات شريكة حياته، من البكر إلي الثيب؛ عسي أن تكون أماً لأخواته؛ مما يتيح له التفرغ للجهاد، وقد حصل له ما أراد، فخرج في غزوة تبوك، وأراد الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ مساعدته، فابتاعه ناقته بأربعين درهما، وزاده، ثم أعطاه المال والناقة؛ جبرا لخاطره و عونا علي سداد دينه و الإنفاق علي أهله.
و هؤلاء أهل الصفة الفقراء في مسجد رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذين استعملهم في طلب العلم؛ فكان منهم أمثال أبو هريرة ولم يتركهم بلا عمل.
و هذا عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى، استعمله النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ مؤذنا للصلاة، و وظَّف عماه أحسن وظيفة، في الجهاد في سبيل الله، وهو الأعمى الذي ربما يفقد طعم الحياة مع عماه ـ ولذلك جعل الله الجنة للأعمى إن احتسب ـ ولكنه ارتفع فوق عاهته؛ فأذن للصلاة وأخذ ثواب المصلين، وخرج في جيش يحارب الروم قائلا: لأكثر سواد المسلمين، وحينما انكشف المسلمون في صبيحة اليوم الأول والثاني؛ ذهب إلي القائد فقال: أريد أن أحمل الراية غدا؛ فإني لا أري و لن أتراجع.
و منهم الأعور الذي قال: أحرس المتاع لجند الله .
و منهم أم عمارة: نسيبة بنت كعب، ربة البيت وأم العيال و المجاهدة التي باشرت بيدها القتال وهي امرأة حتى قطعت يدها في معركة اليمامة.
و كم من بيوت فقدت عائلها وتركوا زوجاتهم أرامل و أولادهم يتامى؛ بعد استشهاد سبعين في غزوة أحد و غيرها من غزوات أخر .
منهم طلحة بن عبيد الله الذي شلت يده .
منهم مَنْ ليس له حلة كاملة؛ فإذا جلس أمسك بتلابيب ثوبه؛ حتى لا تنكشف عورته، بل إن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ لبس ثوب زوجه يوم الخندق، و آخرون من غيرهم لا يكفي المقام لذكرهم .
إن هؤلاء الصحابة الكرام صمدوا وجاهدوا دون أن تضطرب الموازين في أنفسهم؛ فلم يعتزلوا المجتمع و الدعوة أو يتأخروا عن أداء واجبات دينهم قبل أو بعد المشكلة وصدق فيهم قول الشاعر:
وصابرٌ تلهج الدنيا بنكبته *** تخال من جميل الصبر ما نُكِبَ
لكنهم قهروا أعذارهم و نأوا بأنفسهم عن أن تستوعبهم الحياة بملذاتها و مشاكلها، و ارتقوا فوقها، وأدوا أداء حسنا للإسلام، أما نحن فلنا مشاكل و طموحات استوعبتنا و أقعدتنا كثيرا، وكل منا أراد أن تُحل مشاكله أولا و تتحقق طموحاته ثانيا، ثم يشرع بعد ذلك في التفكير و العمل لقضية الحق.
ويبقى تساؤل آخر: لماذا قهر الصحابة أعذارهم؟
لأنهم آمنوا بأن الأمور بيد الله؛ تجري بمقادير؛ فطلبوها بعزة النفس وآمنوا بأن المستقبل بيد الله وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها، وعلموا أن من حسب أن المشاكل و العقبات و الطموحات ستتوقف يوما ما، فهو واهم؛ فقد قال تعالي: ( لقد خلقنا الإنسان في كبد )، وأخبرهم المصطفي صلي الله عليه وسلم ( لو كان لابن آدم واديا من ذهب لابتغي ثانيا؛ ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب ).
وآمنوا بأن الدنيا دار ابتلاء، وأن الحياة اختبار؛ نخرج من واحد لندخل في ثان (ومن يرد الله به خيرا يصب منه ) وأن الدنيا مزرعة الآخرة؛ فكانت الجنة مرمى أملهم، يقينهم بها أعظم من يقينهم ببيوتهم التي يعيشون فيها، وما في يد الله أوثق مما في أيديهم؛ لا يلتفتون إلي رغبة و لا إلي شهوة إلا إذا كانت عونا لهم علي الفوز بالجنة .
وإذا ما أرادوا و أصبحت لهم آمال و رغبات، فكلها لدين الله، وإذا بذلوا أو ضحوا فمن أجل الدفاع عنه ؛ جاعلين من أنفسهم وقفا لله؛ فكانت أعمارهم بمحتواها في مرضاة الله و دعوة الله ، يرون تكليفات ربهم و ما يبذلونه أقساطا واجب أداؤها؛ مؤمنين بقول الله ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ) وقوله تعالي (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).
نموذج منهم :
الصحابي الجليل جليبيب ـ رضي الله عنه ـ كان دميم الخلقة لكنه جميل الإيمان؛ راضيا بقضاء الله فيه، رغب في النكاح فلم تقبله فتاة؛ فهل لعن الحياة ومن فيها ؟.. هل نقم علي الصحابة و بناتهم ؟
لا والله؛ بل رضي بخلقته و قضاء الله فيه؛ فهي ليست غلطة؛ فان كل شيء بقدر، بل عرف البلاء منحة قبل أن يكون محنة، له معها ثلاث درجات: صبر ورضا وشكر، ولكل ثوابه، وأعلاهم الشكر؛ فشكر رضي الله عنه متأسيا بحبيبه ـ صلي الله عليه وسلم ـ في غزوة أُحد وما كان من الهزيمة فقال للصحابة: ( اصطفوا لأُثني علي ربي )
فجليبيب علمنا أن يكون تكويننا الإيماني بقيم القرآن، لا بكلام الناس؛ لذا لم تستوعبه المشكلة، ولا دارت حياته حولها، ولا نقم علي المجتمع، ولا شغل القيادة بها ليل نهار ولم يتخلف عن الصلوات و لا مجلس رسول الله صلي الله عليه وسلم أو غزوة في سبيل الله، وحينما جعل الله له مخرجا وفرَّحه بالزواج خرج _ هو حديث عهد بالزواج _ ليواصل جهاده حتى استشهد، و قد افتقده رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في الغزوة التي استشهد فيها؛ فعن أبي برزه الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في مغزى له، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفتقدون من أحد؟ قالوا: نعم فلانا و فلانا وفلانا، ثم قال هل تفتقدون من أحد؟ فقالوا : لا.
قال: ولكني أفتقد جليبيبا؛ فطلبوه؛ فوجدوه إلى جنب سبعة، قد قتلهم ثم قتلوه.
فأتى النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ فوقف عليه ثم قال: أقتل سبعة ثم قتلوه!!؛ هذا مني و أنا منه .. هذا مني و أنا منه .. ثم وضعه علي ساعديه ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلي الله علي وسلم.
قال: فحفر له و وُضِع في قبره ولم يذكر غسلا ). رواه مسلم
فرحم الله جليبيبا ـ رضي الله عنه ـ فقد علمنا أن من كان عطاؤه كعطاء جليبيب سيلقى جزاءه.
وترك لنا سؤالا: هل تستطيع أن تقهر أعذارك؟؟.. فتعيش ولك مشكلة وتمارس دعوتك و ثورتك في ذات الوقت الذي تسعي فيه لحل مشكلتك؟
هل تستطيع أن تحمل هم حياتك فتؤجر عليه وفي ذات الوقت تحمل هم دينك و وطنك وأمتك ؟
إذ المؤمن له همان : الدنيا ، وكيف يلقى الله ؟
و كما قال الأستاذ العقاد: ( إن الصبر علي أداء الواجب درجة رفيعة من درجات الأخلاق الإنسانية، و أرفع منها الصبر علي أداء الواجب الذي لم يكلفك أحد به، ولا يسألك أحد عنه، و أرفع من هاتين الدرجتين صبر الإنسان علي أداء واجب يضار بأدائه، و ينتفع بتركه، وقد يتركه فيغنم الثناء و الثريا؛ تلك درجة الدعاة الصادقين ).
ورحم الله أحد الإخوان حينما قال :
( لقد اختلطت الدعوة بدمي ، حتى لو جرحت و سقط دمي يجري علي الأرض لكتب الله أكبر و لله الحمد ).