محمد منصور
من الأمور التي يؤدي إغفالها بله إهمالها إلى ما لا تُحمد عقباه؛ هي مستوى انضباط الصف؛ خاصة في هذه الظروف الحرجة من عمر الدعوة و الوطن، و التي تلامس العصب العاري لدى الثوار، في ظل الالتزام بسلمية الحراك الثوري.
إذ إن الانضباط صمام الأمان؛ و كم جر غيابه أو إهماله من المهالك و المفسدات، و لذا كان التوجيه النبوي: ( ليس الشديد بالصرعة و لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب ).
و لخطورته وجهنا الإمام البنا ـ رحمه الله ـ بقوله: (ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة.. ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فأنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها علي بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد ).
و تُحدثنا سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أن الانضباط الذي تحلى به حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ عندما واتته فرصة سانحة؛ يقتل فيها قائد الأحزاب أبا سفيان بن حرب، و هَمَّ بذلك، و لكنه ذكر أمر رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ ألا يذعرهم، و أن مهمته الإتيان بخبرهم؛ فنزع سهمه من قوسه.
و لإدراك خطورة عدم الانضباط في هذا الموقف؛ نطرح سؤالا: ماذا لو اغتال حذيفةُ أبا سفيان ؟ و أتركك عزيزي القارئ في جلسة عصف ذهني مع نفسك؛ لتوصيف المشهد و مآلاته على كلا المعسكرين المسلم و المشرك.
و لهذا كان من حرص الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ على انضباط أفراد الصف، توجيهه المباشر لأبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ بعد إسلامه، أن يرجع إلى قومه حتى يبلغه أمره؛ لأن أبا ذر يحمل طبيعة فوارة جياشة؛ تأبي الباطل و تتمرد عليه، و لها القدرة على مواجهة الباطل، بيد أن و قته لم يأت بعد؛ خاصة و هو رجل غريب؛ ليس له في مكّة حسب ولا نسب ولا حمى.
( و حدث ما توقعه الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فلقد توجه إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فور إسلامه بهذا السؤال: يا رسول الله، بم تأمرني..؟ .. فأجابه الرسول: ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري..
فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده، لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد.
ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملاقيه.. فقد أحاط به المشركون وضربوه حتى صرعوه.. وترامى النبأ الى العباس عم النبي، فجاء يسعى، وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم الا بالحيلة الذكية، قال لهم: "يا معشر قريش، أنتم تجار، وطريقكم على غفار،، وهذا رجل من رجالها، إنْ يحرّض قومه عليكم، يقطعوا على قوافلكم الطريق".. فثابوا إلى رشدهم وتركوه.
وهكذا لا يكاد في اليوم الثاني وربما في نفس اليوم، يلقى امرأتين تطوفان بالصنمين "أساف، و واثلة"، حتى يقف عليهما ويسفه الصنمين تسفيها مهينا.. فتصرخ المرأتان، ويهرول الرجال كالجراد، ثم لا يزالون يضربونه حتى يفقد وعيه.. وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه " يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله".
ويدرك الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ طبيعة تلميذه الجديد الوافد، وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل. بيد أن وقته لم يأت بعد، فيعيد عليه أمره بالعودة إلى قومه، حتى إذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه). رجال حول الرسول / بتصرف
و في المقابل نرى عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حينما تأخذه الغيرة على الإسلام؛ فيسأل الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ أن يضرب عنق كافر أو منافق، لكنه في ذات الوقت كان قمةً في الانضباط حين يتلقى الإجابة بالنفي، و لم يُذكر مرةً أنه خالف النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ في أمر.
خلاصة الطرح، أننا لا نمضي اعتباطا، و لا نقحم أنفسنا فيما يفسد أكثر مما يصلح و يهدم أكثر مما يبني، و نحذر كل الحذر من الارتجال و الاستعجال، سواء على مستوى الإعداد أو القرارات أو الحركة من دون أن تأخذ حقها من الدراسة و المناقشة و الإنضاج.
و لأجل هذا كان انضباط القيادة و الصف بسلمية الحراك الثوري، حتى كسر الانقلاب و العودة إلى الشرعية الدستورية و إحياء المسار و التحول الديمقراطي.
و يقولون متى هو؟.. قل عسى أن يكون قريبا.