محمد منصور :
انتهينا في المقال السابق إلى أن حسن البناـ رحمه الله ـ بدأ إعادة تشكيل و ترتيب الأفكار داخل العقل المسلم ؛ ليعطي الفرصة كاملة لظهور الفكرة الإسلامية في صورة نقية ماسية كما يحدث لذرة الكربون حين يتغير التركيب الهندسي للذرات داخل الجزيء بطريقة معينة فيكون من ذلك إما الفحم أو الجرافيت أو الماس .
و ترى ذلك في تعريفه للإسلام في هذا الوقت إذ يقول:
( الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا ؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة وهو مادة وثروة أو كسب وغنى وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما أنه عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء) . رسالة التعاليم
و قد ذكر البنا في هذا التعريف عشر كلمات و مرادفهن على النحو التالي :
1، 2 هو دولة و وطن:
لأن الإنسان مخلوق اجتماعي بفطرته ؛ لا يستطيع وحده مهما سما و ارتقى أن يسعد نفسه ـ بله الآخرين ـ منعزلا ؛ إذ السعادة منبعها أن تسعد غيرك و يسعدك ، ولا يكون ذلك إلا بالاجتماع مع بني جنسه داخل حدود متعارف عليها باسم الوطن ؛ لأن الدولة المبعثر أفرادها بلا وطن يجمعهم لا يقدرون على شيء ؛ إذ الاستقرار المكاني و النفسي يعد أول عوامل النهوض و التقدم .
أو حكومة و أمة :
لأن الناس ليسوا سواسية في الانقياد لحكم الضمير، بل أكثرهم يحتاج إلى من يحرسه و يحول بينه و بين الشر إن شرع فيه ؛ و قدر ورد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : ( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ) ؛ و الحكومة جزء من الإسلام و أهل الفقه يقولون : إن الحكم معدود في كتب الفقه من العقائد و الأصول ، و الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ جعله عروة من عرى الإسلام .
4،3 و هو خلق و قوة :
لأن الدنيا لا تقوم إلا بالفضائل وإلا صارت غابة، كما أنه لابد للحق من قوة تحميه، و هذا الدين كله خير و إن لم يحرسه أهله عُدِي عليه.
أو رحمة و عدالة :
لأن أي مجتمع فيه القوي و فيه الضعيف و لا بد أن يعيش الضعيف في كنف القوي مصانة حقوقه و إلا صار المجتمع غابة تحكمها شريعة الغاب ، و بناء عليه لابد لهذا التجمع أن يقوم على مبادئ الحق و العدل و التي تعد عوامل البقاء لأي أمة حتى و لو كانت فاجرة مادام لها نصيب من هذه المبادئ .
وعدالة يعيش الناس تحت مظلتها آمنين مطمئنين و حتى لا تأخذنا بالظالمين و الفجرة رأفة ؛ لأنهم مفسدون في الأرض و لابد من الأخذ على أيديهم.
6،5 و هو ثقافة و قانون :
لأن الله خلقنا لنعمر الأرض التي سخرها لنا ولن نستطيع ذلك إلا بالعلم و الثقافات المتخصصة.
و القانون لأننا عرضة لوقوع الخلاف بيننا ؛ فلكلٍ رأيه و هواه و كثيرا ما نضل ، و من هنا وجب القانون ليحكم بين الناس فيما اختلفوا و يختلفون فيه .
و علم و قضاء :
و العلم الذي يريده الله ليس قاصرا على الفقه أو الحديث أو التفسير و إنما كل علم ينفع الناس في معاشهم و معادهم مثل : الطب و الفلك و الرياضيات و الهندسة و غيرها من علوم الدنيا .
وقضاء لأن القانون إن لم يقض بالحق و بأمانة فلا خير فيه و لو أننا جئنا بأحسن قانون و وضعناه في يد ظالم فاسد ما جاء الا بالظلم اذ لابد من روح القانون و الخلق و الرحمة التي في نفس القاضي .
8،7 و هو مادة و ثروة :
لأن المعنويات لا تكفي لحياة الناس ؛ فهم لا يعيشون بالصدق و الأمانة و الشهامة و فقط ، بل لابد من العمل و الإنتاج لما يريح الناس في دنياهم و كذلك تكوين الثروات ؛ لأن الثروات تُقضى بها الرغائب و تُجاب بها المطالب و الناس لهم رغائب و مطالب دنيوية .
و كسب و غني :
لأن الرهبانية و التبطل موت للأحياء و ليس ذلك من الإسلام في شيء ؛ إذ لابد للمسلم أن يعمل و يجد و يكسب .
و غنى لأن العزة لا تكون للمتسولين و قوى الشر في العالم يريدون المسلمين أن يظلوا محتاجين باستمرار، أي تنتشر بينهم ثقافة الاستهلاك لا ثقافة الإنتاج ؛ لأن من لا يملك قوته لا يملك قراره و حريته .
10،9 وهو جهاد و دعوة :
لأن الإسلام نور و كثيرون يعيشون في ظلام المادة و الافكار المضادة لدين الله و لابد لأهل الحق أن يُخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بجهادهم في سبيل الله حتى يؤمنوا أو يُزاحوا من الطريق ؛ إذ هو دعوة الله إلى الخلق وهو الدواء للبشرية كلها و لابد أن يصل هذا الدواء و لكي يصل لابد أن يبلغه أهل الحق .
و جيش و فكرة :
جيش لأن الجهاد بالكلام لا يغني و الكفاح بالحجة و المنطق و البرهان قلما يجدي ولابد للفكرة من جيش يحملها و يحميها.
و فكرة لأنه لا يكره أحدا على الدخول فيه ؛ إنما يعرض مبادئه على الناس ثم يتركهم أحرارا ؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر و التوجيه الرباني للرسول صلى الله عليه و سلم : ( و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) أي اتركه حرا بعدما أسمعته ليقرر موقفه عن اقتناع .
و من هنا كانت لدعوة الأستاذ البناـ رحمه الله ـ آثار طيبة ؛ إذ أعادت إلى الجيل الجديد في العالم العربي الثقة بصلاحية الإسلام و خلود رسالته و أنشأت في نفوسه و قلوبه إيمانا جديدا و قاومت مركب النقص في نفوسهم و الهزيمة الداخلية التي لا هزيمة أشنع منها و أكبر خطرا ، و كذلك الميوعة و ضعف النفوس و الانسياق تحت ربقة الشهوات و الطغيان و خلقت كما يقول شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال :
( خلقت في جسم الحمام الرخو الرقيق قلب الصقور و الأسود ) حتى استطاع هذا الجيل أن يصنع العجائب من الشجاعة و البسالة و الاستقامة و الثبات .